عودة المواطنيين الى الخرطوم.. قرار مصيري
يضع مسار العودة إلى الخرطوم المواطنين السودانيين في الداخل والشتات أمام خيار مصيري بالغ التعقيد، إذ ترتبط الخطوة بواقع متشابك من عقبات أمنية وخدمية واقتصادية يجعل كلفتها عالية على المستويين المعنوي والمادي. وبينما تتراكم آثار الحرب التي أنهكت العاصمة وأضعفت بناها الحيوية، تصاعدت في المقابل الدعوات المطالِبة باستئناف الحياة الإدارية في الخرطوم، لتصبح نبرة العودة أكثر حضوراً في الخطاب العام، في سياق يتداخل فيه ضغط الحاجة إلى المؤسسات مع واقع الأضرار التي طاولت المرافق والسيادة والخدمات الأساسية، ما يضع المجتمع أمام اختبار واقعي حول قدرة المدينة على تحمل استعادة الدور المركزي للدولة.
المطالبة
في الآونة الأخيرة، دعت حكومة بورتسودان إلى إعادة المؤسسات الحكومية إلى الخرطوم، وهي المدينة التي شهدت اندلاع الحرب وتعرضت لدمار شبه شامل، لا سيما في المؤسسات السيادية والوزارات والوحدات الإدارية ذات الطابع الحكومي. جاءت هذه الدعوة على نحو مباشر يستهدف إعادة تموضع أجهزة الدولة في موقعها التقليدي، في خطوة تعكس رغبة في إعادة مركز الثقل المؤسسي إلى العاصمة رغم حجم الأضرار. وتضع هذه المطالبة الملف أمام اعتبارات تشغيلية وإجرائية تتعلق بتوفير بيئة مناسبة لاستئناف العمل الإداري من جديد، مع ما يقتضيه ذلك من ترتيبات تتعلق بالبنية والمقار والموارد البشرية.
التحديات
عودة الحكومة إلى الخرطوم تأتي في ظل تحديات كبيرة تتمثل في استمرار العمليات العسكرية في بعض المناطق، وتدهور الوضع الاقتصادي على نطاق واسع، إضافة إلى نزوح جماعي للسكان من العاصمة إلى ولايات أخرى وخارج البلاد. هذا الواقع يفرض طبقات متعددة من الصعوبات، تتعلق بسلامة الانتقال وإمكانات التشغيل وتوافر الخدمات، فضلاً عن الضغط الاجتماعي الذي أنتجته موجات النزوح الممتدة. وتنعكس هذه التحديات مباشرة على قرارات إعادة الانتشار الإداري، بما يتطلب مسارات منظمة لإعادة بناء الخدمات العامة واستعادة القدرة التشغيلية للمؤسسات في بيئة غير مستقرة بعد.
اللجنة
شكّل رئيس مجلس السيادة والقائد العام للجيش عبد الفتاح البرهان في منتصف يوليو الماضي لجنة برئاسة عضو المجلس إبراهيم جابر، وأسند إليها مهمة تهيئة البيئة لعودة المواطنين والمؤسسات الحكومية إلى الخرطوم. تحمل اللجنة تفويضاً تنفيذياً يركز على إزالة العوائق وتنسيق الجهود بين الجهات المختلفة، بما يضمن تدرج العودة في إطار منظم. ويشمل التفويض تهيئة المقار الحكومية، وتحديد الاحتياجات العاجلة، ووضع جدول زمني واقعي للانتقال، مع متابعة تنفيذ الإجراءات التي تكفل إعادة انتظام العمل الإداري تدريجياً في العاصمة.
الخدمات
تعمل اللجنة على توفير الخدمات الأساسية من كهرباء ومياه ومستشفيات، إلى جانب تأهيل الطرق والمطار لاستقبال الرحلات الداخلية، في إطار خطوة لإعادة نبض الحياة إلى العاصمة. وتعكس هذه الأعمال أولوية إصلاح البنية التحتية الحيوية لضمان قدرة الأجهزة على العمل، وربط الأحياء والمؤسسات بشبكات الطاقة والمياه والنقل. كما يندرج ضمن الجهود تحسين جاهزية المنشآت الصحية والخدمية لضمان حد أدنى من الاستقرار الخدمي الذي يمثل قاعدة لازمة لبدء أي نشاط إداري، مع التركيز على عناصر السلامة والقدرة التشغيلية.
العودة البطيئة
يرى مراقبون أن أداء اللجنة المكلفة بتهيئة البيئة للعودة ما يزال بطيئاً، إذ عاد عدد من المواطنين إلى منازلهم لكنهم لم يجدوا الخدمات الأساسية مثل المياه والكهرباء، ما دفع كثيرين للرجوع إلى أماكنهم السابقة. ويشير المراقبون إلى فجوة بين الدعوات الرسمية وبين الواقع الخدمي، حيث تحتاج العودة إلى خرائط تنفيذ دقيقة وتوفير موارد كافية. ويتباين تقييم دوافع العودة بين من يراها محاولة للكسب السياسي ومن يعتبرها ضرورة لإعادة البناء وتعمير ما دمرته الحرب، ما يعكس تنوع الرؤى تجاه الأولويات الفعلية في هذه المرحلة.
الدوافع
تتعدد القراءات حيال دوافع إعادة الحكومة إلى الخرطوم؛ فهناك من ينظر إليها باعتبارها خطوة سياسية تستهدف تعزيز الحضور والرمزية في العاصمة، فيما يرى آخرون أنها متطلب أساسي لإطلاق مسار إعادة الإعمار المؤسسي والخدمي. هذا التباين يعكس اختلافاً في تقدير التوقيت والجدوى، بين الاعتبارات المتعلقة بالشرعية الإدارية وضرورات الواقع الفني والتشغيلي. وتضع هذه الرؤى المتباينة القرار داخل إطار تقييم معقد يراعي كلفة العودة ونتائجها المحتملة على الخدمات العامة وقدرة الدولة على استعادة انتظامها في ظل ظروف غير مكتملة الاستقرار.
الوزراء
ناقش مجلس الوزراء برئاسة الدكتور كامل إدريس، الأحد الماضي، موضوع عودة الحكومة والمؤسسات إلى ولاية الخرطوم، حيث استمع إلى تقرير مفصل حول خطط العودة والانتقال إلى العاصمة قدمته وزيرة شؤون مجلس الوزراء الدكتورة لمياء عبد الغفار. عرض التقرير الإجراءات المقترحة والاحتياجات التنظيمية واللوجستية، مع الإشارة إلى الجوانب الإدارية المرتبطة بإعادة تشغيل المكاتب والمقار الرسمية. ويأتي هذا النقاش في إطار متابعة حكومية متصلة لملف العودة، بما يضمن توافق القرارات مع الإمكانات المتاحة والظروف الأمنية والخدمية القائمة.
المركزي
أعلنت محافظ بنك السودان المركزي آمنة ميرغني، الثلاثاء، استئناف عمل البنك من داخل ولاية الخرطوم، مؤكدة عودة العاملين خلال شهر ديسمبر الحالي. وخلال اجتماعها مع والي الخرطوم، أوضحت أن البنك المركزي سيفتح فرعاً جديداً بالولاية لتمكين المواطنين من الحصول على الخدمات المصرفية بصورة مباشرة. ويعكس هذا التحرك توجه المؤسسة المالية العليا لاستعادة حضورها التشغيلي في العاصمة، في سياق خطة أوسع لربط الجمهور بمنظومة المعاملات وتقليل كلفة الوصول للخدمات الأساسية المرتبطة بالنشاط المصرفي.
التمويل
أشارت محافظ بنك السودان إلى أن البنك يعمل على إنشاء فرع لمؤسسة التمويل الأصغر وتوسيع فرص التمويل لتحريك الإنتاج، في مسار يستهدف دعم الأنشطة الاقتصادية الصغيرة والمتوسطة واستعادة ديناميات السوق. ومن جانبه، أكد والي الخرطوم استعداد حكومته لدعم عودة النشاط المصرفي وتشجيع البنوك التجارية على استئناف عملها لتعزيز الاستثمار والتعافي الاقتصادي. وتأتي هذه الخطوات ضمن ترتيبات مالية تهدف إلى إعادة الثقة في النظام المصرفي وإتاحة أدوات تمويلية للمجتمع بما يساعد على تحريك عجلة الاقتصاد.
الإجراءات
أفادت مصادر حكومية لصحيفة التغيير بأن الحكومة دعت الموظفين رسمياً للعودة إلى العمل في الخرطوم بعد توقف دام نحو ثلاث سنوات، مؤكدة أن إجراءات صارمة ستتخذ ضد المتخلفين عن الحضور في الموعد المحدد. وتشير المصادر إلى أن جميع العاملين في الوزارات والمؤسسات تم إبلاغهم بالعودة بشكل رسمي، وأن أي غياب لن يُقبل بعد تهيئة المؤسسات في مواقعها الجديدة بالعاصمة. وتعكس هذه الإجراءات رغبة في استعادة الانضباط الإداري وتفعيل منظومة العمل المؤسسي وفق جداول زمنية محددة.
الموظفون
توقعت المصادر الحكومية أن تعود الحكومة إلى الخرطوم في بداية العام المقبل، في إطار خطة تنظيمية لإعادة الانتشار الإداري. ويستند هذا التوقع إلى إبلاغ العاملين بقرارات العودة وتحديد مسارات تهيئة المواقع الحكومية لاستئناف النشاط. ويعكس الإجراء سعياً لإعادة انتظام دورة العمل داخل الوزارات والهيئات العامة، بما يسمح بإعادة تقديم الخدمات للجمهور واستعادة مسارات المعاملات الرسمية داخل العاصمة، مع ربط ذلك بقدرة المؤسسات على استقبال الكوادر وتوفير المتطلبات التشغيلية الأساسية لاستئناف العمل.
العطا
يرى الناشط المجتمعي والمهتم بالشأن الاقتصادي صديق العطا أن عودة الحكومة والمؤسسات إلى الخرطوم سيكون لها آثار إيجابية متعددة على البلاد، من خلال الإسهام في استعادة الاستقرار والأمان وتحسين الخدمات الأساسية مثل الصحة والتعليم والمياه والكهرباء. واعتبر أن هذه العودة يمكن أن تجذب الاستثمارات الأجنبية والمحلية وتدعم النمو الاقتصادي رغم التحديات الراهنة، مشيراً إلى أن إعادة بناء الاقتصاد وتحسين البنية التحتية تمثل نتائج مهمة لهذه الخطوة وتسهم في تحسين حياة المواطنين وتوفير فرص عمل. ويضع هذا التصور العودة ضمن إطار التعافي المؤسسي والخدمي.
الأمن
شدد صديق العطا على ضرورة أن تعمل الحكومة على توفير الأمن والاستقرار ونزع السلاح من النظامين، بالإضافة إلى إخراج القوات العسكرية من الولاية وتركها للشرطة لممارسة مهامها بما يهيئ البيئة لعودة المواطنين. ويضع هذا الطرح الأبعاد الأمنية كشرط لازم لاستدامة أي خطوة نحو العودة، إذ يمثل ضبط السلاح وإعادة توزيع الأدوار الأمنية عنصراً مركزياً في ضمان سلامة الحركة والخدمات. ويرتبط ذلك بإعادة ترتيب اختصاصات الأجهزة بما يدعم بيئة مدنية آمنة تعطي للعودة إطاراً عملياً قابلاً للتطبيق.
أبو الجوخ
يرى الصحفي والمحلل السياسي ماهر أبو الجوخ أن الحديث عن عودة الحياة إلى الخرطوم، سواء من خلال عودة المواطنين أو انتقال المؤسسات الحكومية أو إعادة تشغيل المطار، هو نهج تفكير سياسي إعلامي يستهدف تأكيد عودة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل الحرب، رغم أن نتائج وتداعيات الحرب ما تزال واضحة ولا يمكن تجاهلها. واعتبر أن هذه الخطوات جزء من منهج مستهتر يتعامل مع الناس كبيادق في رقعة التطلعات لصالح معارك القيادات السياسية والعسكريين المتشبثين بالسلطة. وأشار إلى توقف رحلات العودة الطوعية التي نظمتها الصناعات الدفاعية من مصر لعدم تحقيق هدفها الأساسي.
العوائق
أوضح ماهر أبو الجوخ أن هناك عوائق حقيقية تجعل عودة الحياة إلى طبيعتها في الخرطوم أمراً مستحيلاً، أولها استمرار الحرب وإمكانية مباغتتها لأي مكان بما في ذلك العاصمة عبر الضربات والهجمات بالطائرات المسيرة. وأضاف أن الكلفة التدميرية العالية للحرب وأثرها على البنية الخدمية تمثل عائقاً إضافياً، مستشهداً بتصريحات مساعد قائد الجيش إبراهيم جابر عن اكتمال صيانة الخطوط الناقلة في الخرطوم في وقت تحتاج فيه الولاية لمحطات كهرباء. كما اعتبر أن الانتشار الواسع للسلاح والمهددات الأمنية، إلى جانب توقف وتعطل العمل الاقتصادي في القطاعين الخاص والعام، تجعل استعادة الخرطوم كمركز اقتصادي مسيطِر أمراً بالغ التعثر.
السلطات
وعلى الرغم من كل المظاهر والمهددات، تعمل السلطات على إعادة الحكومة إلى الخرطوم في إطار خطوات متتابعة لإعادة الانتشار الإداري والمؤسسي. وتبقى المسارات العملية رهناً بما يتم تنفيذه على الأرض من تهيئة للمقار والخدمات وإجراءات تنظيمية، مع استمرار الجهود الرامية إلى استعادة العمل الحكومي في العاصمة. يعكس هذا المسار رغبة رسمية في إعادة مركز الدولة إلى الخرطوم ضمن الظروف الراهنة، بما يحفظ انتظام الخدمة العامة ويضع أسساً تشغيلية لاستئناف النشاط الإداري في المدينة.
