وفد البنك الدولى فى السودان .. تباين فى الاراء الاقتصادية
البنك الدولي يعود إلى السودان وسط جدل اقتصادي وسياسي
استأنف البنك الدولي اتصالاته مع حكومة بورتسودان عبر بعثة رسمية رفيعة المستوى وصلت إلى البلاد يوم الإثنين، في زيارة تستمر عدة أيام وتشمل لقاءات مع كبار المسؤولين في الدولة. وتأتي هذه الخطوة بعد تعليق العلاقات مع السودان منذ انقلاب رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش عبد الفتاح البرهان في 25 أكتوبر 2021، ما يجعل الزيارة حدثاً بارزاً في سياق العلاقات الدولية والاقتصادية للسودان.
بعثة رفيعة
وضمت بعثة البنك الدولي المديرة الإقليمية للسودان وإثيوبيا وإريتريا مريم سالم، والمدير القطري للبنك يوينشيرو إيشيهارا، إلى جانب الخبير الاقتصادي د. محمد عثمان من مكتب البنك الدولي في السودان. وعقد الوفد اجتماعاً مع وزير المالية جبريل إبراهيم وكبار المسؤولين في الوزارة، حيث ناقشوا المشروعات التي بدأ تمويلها منذ العام 2024 والمستمرة خلال الأعوام المقبلة. وتشمل هذه المشروعات تعزيز قدرة المجتمعات على الصمود، دعم التعليم الابتدائي في حالات الطوارئ، الاستجابة الصحية، مشروع شبكة الأمان الاجتماعي، ومشروع تعزيز مرونة المجتمعات. كما كشف اللقاء عن موافقة البنك على تمويل مشروع جديد في مجال الطاقة النظيفة والرقمية في السودان.
الآراء
أثارت زيارة وفد البنك الدولي إلى السودان جدلاً واسعاً بين الخبراء والمحللين الاقتصاديين الذين استطلعتهم إذاعة “راديو دبنقا”، حيث تباينت وجهات النظر حول أهدافها الحقيقية. فقد اعتبر الخبير المصرفي عمر سيد أحمد أن الهدف الأساسي يتمثل في محاولة احتواء الدولة ومنعها من الانهيار الكامل، بينما رأى المحلل الاقتصادي كمال كرار أن الزيارة تحمل في طياتها خطة لتفكيك وخصخصة مشروع الجزيرة، أحد أكبر المشاريع الزراعية في البلاد. وفي المقابل، أوضح الخبير الاقتصادي عبد الحليم تيمان أن الزيارة تهدف إلى التنسيق مع الوكالات الإنسانية التابعة للأمم المتحدة لربط المساعدات الإنسانية بالتنمية طويلة الأجل. أما البروفيسور صدقي كبلو فقد ذهب إلى أن الهدف الأعم هو رعاية مصالح دول الرباعية، التي تضم الولايات المتحدة والسعودية ومصر والإمارات، عبر إصلاح البنية التحتية والخدمات تمهيداً لاستغلال موارد السودان.
احتواء الانهيار
الخبير المصرفي عمر سيد أحمد أكد أن زيارة وفد البنك الدولي لا تعكس بالضرورة إطلاق عملية إصلاح كبرى، بل تمثل محاولة أولية لاحتواء الدولة ومنعها من الانهيار التام. وأوضح أن الزيارة تحمل دلالات سياسية واقتصادية مهمة، أبرزها عودة المؤسسة الدولية للتعامل الفني مع السودان في ظل حرب واسعة وانهيار غير مسبوق في الخدمات الأساسية. وأضاف أن الحرب عطلت مؤسسات الدولة وتسببت في تشظي السلطة وانقسام الوزارات، إلا أن البنك الدولي أعلن استمراره في تمويل مشروعات بقيمة تتجاوز 504 مليون دولار. وأشار سيد أحمد إلى أن البنك أوضح بجلاء أن تنفيذ هذه المشروعات لن يتم عبر مؤسسات الدولة، وإنما عبر وكالات الأمم المتحدة، وذلك بسبب انهيار القدرات الحكومية وفقدان السيطرة الإدارية وعدم الاعتراف السياسي الكامل بالحكومة، إضافة إلى رغبة البنك في حماية أموال المانحين وقدرة الأمم المتحدة على العمل داخل مناطق النزاع بصورة أكثر أماناً وتنظيماً.
تمويل عبر أطراف ثالثة
سيد أحمد أوضح أن البنك الدولي أكد التزامه بمبدأ دولي صارم يقضي بعدم تقديم أي تمويل مباشر للسلطات الفعلية من دون اعتراف سياسي كامل بها. وأكد أن الحكومة السودانية الحالية لا تتمتع باعتراف دولي شامل، وبالتالي فإن أي تمويل أو مشتريات أو خدمات لن تمر عبرها، بل من خلال أطراف ثالثة ومنظومات رقابة مستقلة. وأضاف أن بعثة البنك الدولي ركزت على أولويات عاجلة تشمل إعادة الإعمار، دعم الصحة والتعليم والمياه، وتأهيل الزراعة، إضافة إلى مشروع جديد للطاقة النظيفة والرقمية، وهو قطاع أصبح أكثر أهمية بعد انهيار الشبكة القومية. واعتبر سيد أحمد أن عودة البنك الدولي خطوة إيجابية، لكنها تكشف في الوقت ذاته هشاشة الوضع الراهن، مشيراً إلى أن المجتمع الدولي يعود اليوم ليس لتمويل التنمية بالمعنى التقليدي، بل لمنع انهيار الدولة وحماية ما تبقى من الخدمات الأساسية ومواجهة الكلفة الإنسانية الضخمة للحرب.
مشروع الجزيرة
المحلل الاقتصادي كمال كرار أوضح أن زيارة وفد البنك الدولي إلى السودان تحمل في جوهرها هدفاً يتعلق بتفكيك مشروع الجزيرة، أحد أكبر المشاريع الزراعية في البلاد، مقابل ما وصفه بـ”رشوة” مالية لحكومة بورتسودان تبلغ 502 مليون دولار. وأكد كرار أن البنك الدولي، رغم توقفه عن التعامل المباشر مع وزارة المالية منذ انقلاب 25 أكتوبر 2021، ظل يحافظ على قنوات اتصال غير رسمية، حيث شارك وزير المالية ومحافظ البنك المركزي في الاجتماعات السنوية للبنك في واشنطن حتى وقت قريب. وأشار إلى أن آخر اجتماع في أكتوبر الماضي شهد مشاركة وزير دولة ووكيل الوزارة، حيث عقدا لقاءً مع رئيس البنك الدولي الذي طرح مبادرة لتوفير الأمن الغذائي والخدمات الصحية والإعمار في الدول الفقيرة، ومن بينها السودان، مع تخصيص حصة لدعم الأمن الغذائي. كرار اعتبر أن السلطة الحالية يمكنها تمرير شروط البنك بسهولة، مؤكداً أن الحديث عن مشروعات الصحة والتعليم والرعاية الاجتماعية يخفي بين السطور خططاً لتعويضات في القطاع الزراعي.
خصخصة زراعية
كرار أضاف أن البنك الدولي يسعى خلال هذه المرحلة إلى دفع الحكومة الحالية لإصدار قرارات تتعلق بالمشاريع المروية والخصخصة، مقابل التمويل المقترح. وأوضح أن البنك لا يرغب في بقاء مشروع الجزيرة تحت إدارة الدولة، بل يسعى منذ زمن بعيد إلى تفكيكه وإعادة هيكلته بما يتماشى مع سياسات الخصخصة. وأكد أن حكومة بورتسودان قد لا تجد مانعاً في بيع مؤسسات عامة مقابل الحصول على التمويل، مشيراً إلى أن هذا السيناريو يرتبط بالعقد الذي وقعته شركة السكر السودانية مع شركة سعودية لتوريد أسمدة وتقاوي، والذي نص على رهن بعض الأراضي الزراعية للشركة السعودية. كرار شدد على أن البنك الدولي لا يريد وجود مشروع كبير تابع للقطاع العام تحت إشراف الدولة، بل يسعى إلى إدخال القطاع الخاص في إدارة المشاريع الزراعية، وهو ما يراه جزءاً من خطة طويلة الأمد لتفكيك مشروع الجزيرة.
تقييم آثار الحرب
الخبير الاقتصادي د. عبد الحليم تيمان، عضو اللجنة الاقتصادية لقوى الحرية والتغيير، تناول في حديثه السياق العام للعلاقة بين البنك الدولي والسودان قبل اندلاع الحرب، موضحاً أن السودان كان قد وصل في يونيو 2021 إلى نقطة الانطلاق جنباً إلى جنب مع صندوق النقد الدولي، وكان من المأمول أن يصل إلى نقطة الإنجاز في إطار مبادرة البلدان الفقيرة المثقلة بالديون “هيبك”. وأكد أن السودان كان من المتوقع أن يحقق هذه النقطة في نهاية عام 2023، ما كان سيمكنه من إسقاط نحو 50 مليار دولار من ديونه بشكل نهائي، الأمر الذي كان سيتيح له فرصاً واسعة للحصول على تمويلات جديدة.
تيمان أعاد التذكير بأن انقلاب 25 أكتوبر 2021 واندلاع حرب 15 أبريل 2023 أوقفا هذا المسار، مشيراً إلى أن البنك الدولي علق التعامل مع السودان واشترط إنهاء الحرب وإعادة تفعيل برنامج التسهيل الائتماني المحدد واستكمال مراجعاته المعلقة، إضافة إلى تحقيق معايير الأداء المتفق عليها. وأوضح أن الأهداف الافتراضية للزيارة الحالية تتمثل في تقييم الأثر الاقتصادي والاجتماعي للحرب، ومراجعة احتياجات السودان استعداداً لاحتمال توقفها وبدء مسار سياسي جديد، إلى جانب مناقشة إمكانية استئناف المشاريع المعلقة أو إعادة توجيهها بما يتناسب مع الواقع الجديد.
مقترحات عاجلة
تيمان لم يستبعد أن يعيد البنك الدولي النظر في حزم تمويلية جديدة تركز على الواقع بعد الحرب، مؤكداً أن من بين أهداف الزيارة التنسيق مع الوكالات الإنسانية التابعة للأمم المتحدة لربط المساعدات الإنسانية بالتنمية طويلة الأجل. واقترح أن يلتزم البنك الدولي بدفع رواتب العاملين كما فعل في اليمن، إضافة إلى دعم الاستجابة الفورية للاحتياجات الإنسانية والتركيز على السودانيين في مناطق النزوح وفي الدول التي لجأوا إليها. وأوضح أن السودان يعاني حالياً من شح الطعام وانتشار الأوبئة والأمراض، ما يجعل التركيز على الصحة والتعليم والغذاء أمراً ضرورياً.
كما نصح تيمان البنك الدولي بالتركيز على التنسيق مع وكالات الأمم المتحدة لتوفير الخدمات الأساسية لملايين السودانيين في الداخل، بما في ذلك المناطق التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع، وكذلك في الدول التي استقبلت اللاجئين السودانيين. وأكد أن هذه الخطوات يمكن أن تسهم في مجهودات وقف الحرب واستئناف المسار الديمقراطي، مشدداً على أن الدعم الإنساني العاجل يجب أن يكون أولوية قصوى في المرحلة الحالية.
صفقة تقسيم المصالح
البروفيسور صدقي كبلو وصف زيارة وفد البنك الدولي في هذه الظروف بأنها “زيارة غريبة” لكنها “واردة”، موضحاً أنها تأتي في سياق المشاورات الجارية بين الجيش السوداني والآلية الرباعية التي تضم الولايات المتحدة والسعودية ومصر والإمارات، أو على الأقل مع السعودية والولايات المتحدة، بهدف التشاور حول مختلف القضايا بما فيها الملف الاقتصادي. وأكد كبلو أن الصفقة المزمع عقدها لإبرام سلام في السودان تقوم أساساً على تقسيم المصالح وتحديد نصيب كل دولة مشاركة في الرباعية من الموارد التي يمكن أن تجنيها من السودان. وأضاف أن هذه الدول لن تتمكن من تحقيق أي مكاسب ما لم يتم تنفيذ الإعمار الأولي المتمثل في استعادة الخدمات الأساسية وإعادة بناء البنية التحتية، باعتبار أن ذلك هو السبيل الوحيد للسماح باستغلال موارد السودان.
مصالح الرباعية
كبلو أوضح أن توقيت الزيارة يبدو غريباً في ظل ظروف الحرب، لكنه يرى أنها تهدف إلى رعاية مصالح الدول المشاركة في الرباعية عبر إصلاح البنية التحتية والخدمات، حتى يمكن أن يؤدي السلام إلى استغلال موارد السودان. وأكد أن الاستثمار في السودان لن يكون آمناً في ظل استمرار القتال، مشيراً إلى أن وصول طيران قوات الدعم السريع إلى مناطق مختلفة من البلاد، بما في ذلك العاصمة والمناطق التي يسيطر عليها الجيش، يجعل أي استثمار محفوفاً بالمخاطر. وشدد على أن أي استثمار لا بد أن يبدأ بوقف إطلاق نار دائم وليس مؤقت، معتبراً أن الزيارة الحالية تمثل خطوة تمهيدية ودراسية للترتيبات المستقبلية أكثر من كونها زيارة تنفيذية ذات نتائج مباشرة.
دور الأمم المتحدة
وفيما يتعلق باعتماد البنك الدولي على وكالات الأمم المتحدة لتنفيذ برامجه ومراقبة مشاريعه في السودان، أوضح كبلو أن هذا النهج ليس جديداً، بل يتم عادة في حال توتر العلاقة بين صندوق النقد الدولي والبلد المعني. وأكد أن البنك الدولي لا يقدم مساعدات مباشرة، وإنما يمررها عبر برامج الأمم المتحدة المختلفة مثل برنامج الأمم المتحدة للتنمية، برنامج الغذاء العالمي، اليونسكو أو اليونيسيف. وأضاف أن هذه البرامج غالباً ما تكون مشاريع صغيرة، بينما المشاريع الكبيرة تتم إما بالشراكة مع الحكومة أو عبر مؤسسات البنك الدولي المتخصصة في تشجيع الاستثمار الخاص، مثل البنك الصناعي أو البنك الزراعي أو مؤسسة الزراعة الآلية كما كان في الماضي.
كبلو شدد على أن العلاقة غير المباشرة مع الأمم المتحدة في ظروف انقطاع التعاون بين صندوق النقد الدولي والسودان ليست أمراً غريباً، موضحاً أن البنك الدولي لا يتحرك إلا عندما تكون هناك علاقة جيدة بين الصندوق والسودان، حيث يمنح الصندوق شهادة الاقتصاد السوداني للاستثمار قبل أن يتوجه البنك لتقديم أي عون استثماري. وأكد أن هذا ينطبق أيضاً على عدد من البنوك العالمية، مشيراً إلى أن الزمن كفيل بكشف ما هو مسكوت عنه في هذه الزيارة وما قد يترتب عليها من نتائج.
