سودانيون يعودون الى الخرطوم ويروون الماساة
في مشهد يعكس التناقض بين الدمار والأمل، تعيش العاصمة السودانية الخرطوم وضعاً إنسانياً بالغ القسوة، حيث تتلبد سماؤها بغيوم المسيرات الانتحارية وتنتشر الأوبئة والأمراض في أحيائها، فيما تعاني من نقص حاد في الخدمات الأساسية من كهرباء ومياه ودواء. ورغم ذلك، يعود آلاف النازحين إلى منازلهم المدمرة لإعادة تأهيلها وفتح نافذة جديدة للحياة.
عودة النازحين
أكد عدد من العائدين إلى الخرطوم أن منزلاً محطماً يلجأ إليه الإنسان في نهاية يوم طويل يبقى أفضل من ألف منزل بالإيجار في مدن النزوح. ورووا لـ«الشرق الأوسط» ذكريات مريرة عن تنقلهم بين المدن هرباً من رصاص الحرب الطائش، مشيرين إلى أنهم اليوم أمام تحدٍ جديد يبدأ من الصفر. ورغم الخراب والخسائر، يزيلون الركام والأنقاض ويعيدون تأهيل منازلهم، متمسكين بالأرض ومزاولين حياتهم اليومية وسط ظروف قاسية.

جهود حكومية
واكبت «الشرق الأوسط» من داخل العاصمة جهود السلطات لاستعادة الخدمات الأساسية. وأوضح وزير الشؤون الاجتماعية بولاية الخرطوم، صديق فريني، أن الحكومة تسابق الزمن لمواجهة متطلبات الكثافة العالية للعائدين، رغم استمرار هجمات المسيرات التي تهدد سماء العاصمة. وأشار إلى إنشاء 87 مركز إيواء لاستضافة آلاف النازحين من دارفور وكردفان، مؤكداً أن اللجنة العليا برئاسة عضو مجلس السيادة إبراهيم جابر تعمل بسلطات واسعة لإعادة تشغيل محطات المياه والكهرباء وتنظيف مخلفات الحرب.
قصص العودة
في منطقة الكدرو شمال الخرطوم بحري، يقف المواطن الطيب موسى داخل محله التجاري الذي أعاد ترميمه بعد نزوح طويل منذ اندلاع المواجهات بين الجيش والدعم السريع في أبريل 2023. وقال موسى، وهو في الأربعينيات من عمره، إنه تنقل بين مدن سنار والدمازين والقضارف وكسلا وعطبرة قبل أن يعود إلى بحري قبل ثلاثة أشهر. وأكد أن النزوح كان تجربة قاسية، لكنه واجهها بروح قتالية، مضيفاً أن العودة رغم خطر المسيرات ونقص الخدمات أفضل من حياة الإيجار في مدن النزوح.
الصبر والعزيمة
المواطنة إيهاب أحمد اضطرت إلى ترك منزلها في حي أم بدة بأم درمان والانتقال إلى جبل أولياء بحثاً عن الأمان. وقالت إنها كانت تدير محلاً للطباعة بسوق الشهداء قبل أن يتعرض للسرقة والحرق. وبعد استيلاء الجيش على العاصمة واستتباب الأمن، عادت إلى متجرها وبدأت من الصفر بماكينة طباعة واحدة، مؤكدة أن العودة وسط الخراب كانت خياراً إرادياً لإعادة بناء الحياة رغم الصعوبات.

مواجهة الصعوبات
المواطن عبد الباقي إسماعيل، البالغ من العمر خمسين عاماً، عاد إلى شارع الدكاترة بأم درمان بعد نزوحه إلى كوستي بولاية النيل الأبيض. وأوضح أنه يعمل في تجارة الملابس الجاهزة منذ أكثر من ثلاثة عقود، وأن أكثر من 20 محلاً تجارياً استأنف نشاطه في المنطقة. لكنه أشار إلى أن أكبر التحديات تتمثل في نقص الخدمات الضرورية وانهيار المستشفيات وتفشي الأوبئة وارتفاع أسعار الأدوية وتكاليف المعيشة.
تقارير دولية
في تقرير صدر يوم 21 أكتوبر 2025، قالت المنظمة الدولية للهجرة إن نحو 2.7 مليون شخص من أصل 3.77 مليون نزحوا من الخرطوم قد يعودون إليها رغم الظروف القاسية. وأكدت أن 2.6 مليون شخص عادوا إلى مناطقهم الأصلية في السودان خلال الفترة نفسها، نصفهم تقريباً من الأطفال، بينهم أكثر من مليوني نازح داخلي و523 ألفاً من الخارج، معظمهم من مصر وجنوب السودان وليبيا.
تهديد المسيرات
أوضح الوزير صديق فريني أن الخرطوم ما زالت تواجه تهديدات من المسيرات العادية والاستراتيجية، لكن رغم ذلك شهدت عودة واسعة للمواطنين إلى الأحياء والمنازل. وأكد أن المؤسسات الصحية بدأت تستعيد نشاطها، وأن مطار الخرطوم والمرافق الاستراتيجية يجري تهيئتها من جديد. وأشار إلى أن الأحياء الشعبية مكتظة بالسكان، وأن الإيجارات ارتفعت بشكل كبير، فيما عادت مراكز التنمية الاجتماعية لتقديم الدعم النفسي للمتضررين، خصوصاً النساء اللواتي تعرضن لانتهاكات جسيمة.
إعادة الخدمات
المتحدث الرسمي باسم حكومة الخرطوم، الطيب سعد الدين، كشف أن الأجهزة المختصة بدأت بإجراءات النظافة والتطهير ونقل الجثث، ثم إزالة الأنقاض وفتح الطرق. وأوضح أن اللجنة العليا نسقت مع حكومة الولاية لتأهيل محطات الكهرباء والخطوط الناقلة، مشيراً إلى استهلاك نحو 15 ألف محول كهربائي تم استيرادها من الخارج. كما كشف عن تشغيل محطات المياه والآبار الجوفية عبر الطاقة الشمسية لتلبية احتياجات المواطنين.

تعافي صحي
أكد سعد الدين أن المؤسسات الصحية تعرضت لنهب واسع للأجهزة والمعدات الطبية، لكن وزارة الصحة شرعت في إعادة الخدمة إلى عدد من المستشفيات، بينها مستشفيات إبراهيم مالك والذرة والشعب وأحمد قاسم للأطفال والقلب والكلى، إضافة إلى مستشفى بحري التعليمي وحاج الصافي وأم درمان التعليمي والوالدين للعيون. وأشار إلى أن الوضع الصحي بدأ في التعافي بعد السيطرة على حمى الضنك والكوليرا، مؤكداً أن القطاع الصحي يشهد استقراراً نسبياً.
إعادة البنية التحتية
أوضح سعد الدين أن العمل جارٍ لمعالجة الطرق وإعادة تأهيل الجسور التي تضررت بالحرب، مشيراً إلى أن قطاع الطرق يحتاج إلى تمويل ضخم بعد فقدان الولاية معظم مواردها. وأكد أن هناك لجاناً تعمل على فرض هيبة الدولة وضبط الأمن وإفراغ العاصمة من القوات المسلحة والدراجات النارية، إضافة إلى انتشار الشرطة وفتح الأقسام الأمنية لضمان بيئة آمنة لعودة المواطنين واستئناف نشاطهم.
بهذا المشهد، تتجسد الخرطوم بين الخراب والأمل، حيث يواجه العائدون تحديات جسيمة، لكنهم يصرون على إعادة بناء حياتهم وسط أنقاض الحرب، فيما تسابق السلطات الزمن لتوفير الخدمات الأساسية وإعادة الحياة إلى العاصمة السودانية.
