الشركات الإمبريالية تعبث بأنظمة البذور في دول الجنوب

محمد إسماعيل عريق-الحلقة الأولى
بينما كنت أراجع فكرة بسيطة في مكان عملي لدعم صغار المزارعين بالحصول على بذور مُصدّقة، وجدت نفسي عالقًا—ليس بسبب نقص في التمويل، ولا لغياب الحلول التقنية، بل بسبب شيء أعمق وأكثر تعقيدًا: هيمنة الحكومات والشركات الكبرى على أنظمة البذور في دول الجنوب.
كشخص عمل في مجال الزراعة مع الأمم المتحدة ومنظمات غير حكومية في بلدان متأثرة بالحروب مثل سوريا، السودان، العراق، اليمن وغيرها، رأيت بعيني كيف تُسحق أحلام المزارعين في امتلاك بذورهم، ومضاعفتها، وتوارثها، تحت نظام قائم على الربح الرأسمالي والتفوق الإمبريالي.
ما أكتبه هنا ليس مجرد تأمل مهني؛ بل هو تأمل سياسي أيضًا. لأنك إن حرمت المزارع من حرية اختيار بذوره، فأنت في الحقيقة تحرمه من اختيار مستقبله.
وقد دفعني إلى كتابة هذا المقال ما واجهته في عملي هذا الصباح، وما تبعه من بحث مكثف عبر الإنترنت حول الشركات الزراعية الكبرى ودورها المدمر—خاصة الشركات الغربية والأمريكية مثل مونسانتو (Monsanto) ) وسينجينتا (Syngenta) ) ودوپونت (DuPont) وكارغيل Cargill)—) ووجدت أن نمط التدمير متكرر في كل مكان من دول الجنوب.
من بلاد الرافدين إلى بلاد النيل، ومن جنوب آسيا إلى أمريكا اللاتينية، فقد المزارعون الصغار في دول الجنوب حقهم التاريخي في توفير البذور وتخزينها ومشاركتها. هذه ليست صدفة، بل نتيجة سياسات ممنهجة وقوانين مفروضة وصفقات خفية تقودها مصالح رأسمالية عالمية.
العراق:
بعد الغزو الأمريكي للعراق في 2003، أصدر الحاكم الأمريكي بول بريمر القانون رقم 81 الذي يمنع المزارعين من إعادة زراعة البذور إذا كانت محمية ببراءة اختراع—بذور في أغلبها جاءت من شركات أمريكية. هكذا، تحول العراق من مهد الزراعة إلى حقل تجارب للهيمنة القانونية والاقتصادية الغربية.
الهند: مأساة قطن
أدخلت مونسانتو قطن معدل اسمه بى تى إلى الهند في أوائل الألفينات. ارتفعت التكلفة، وارتفعت الديون، وانهارت الحصص بسبب الجفاف والآفات الجديدة. النتيجة: أكثر من 300,000 مزارع انتحروا خلال عقدين، كثير منهم بسبب فشل محصولهم المعدل وراثياً.
المكسيك:
رغم أن المكسيك هي مهد الذرة، سُمِح بدخول الذرة المعدلة وراثيًا. النتيجة كانت تلوث جيني في أنواع الذرة المحلية، ما يهدد حقوق المزارعين، وتنوعهم، وسيادتهم الغذائية.
إفريقيا:
في بلدان مثل غانا ونيجيريا وكينيا ومالاوي، تم فرض قوانين بذور جديدة بدعم من ومؤسسة غيتس ومن المعونة الامرايكية، تحظر بيع أو تبادل البذور غير المعتمدة. هذا يؤدي إلى تجريم البذور المحلية وخلق سوق احتكاري لصالح الشركات العالمية.
السودان:
في السودان، أحد أكبر بلدان إفريقيا زراعيًا، ظل نظام البذور هشًا ومتقلبًا بسبب الحروب والإهمال الحكومي. ومع ذلك، في السنوات الأخيرة، كان هناك دفع دولي لإدخال البذور المهجنة والاعتماد على شركات خاصة أجنبية.
المزارعون في دارفور والنيل الأزرق وكردفان غالبًا ما يُجبرون على شراء بذور تجارية، بينما تفقد الأنواع المحلية قدرتها على الصمود بسبب عدم الاعتراف بها رسميًا. وقد فشلت البرامج الحكومية والدولية في دعم نظام بذور قائم على المجتمعات، بل دعّمت الخصخصة ومنع تداول البذور غير “المعتمدة”—وهي غالبًا غير متاحة أصلًا في المناطق المتأثرة بالنزاع.
سوريا:
قبل الحرب، كانت سوريا تعتمد على مؤسسة البحوث الزراعية العامة، وكان هناك نظام توزيع بذور حكومي. بعد الحرب، ومع تدمير المرافق وتفكك المؤسسات، دخلت منظمات دولية لتقديم “الدعم الزراعي”، لكن كثير من هذا الدعم جاء على شكل بذور مهجنة وغير قابلة لإعادة الاستخدام.
تم إدخال أنواع بذور من شركات أجنبية دون شفافية، وتم استبعاد البذور المحلية التي طورها الفلاحون السوريون على مدى عقود. في بعض المناطق، أصبح المزارع يعتمد بالكامل على البذور القادمة في حزم إنسانية موسمية، مما يعزز ثقافة التبعية والاعتماد بدلًا من الاستدامة.
هايتي: إحراق البذور المهداة من مونسانتو
بعد زلزال 2010، قدمت مونسانتو “تبرعًا” بـ 475 طنًا من البذور المهجنة لهايتي. لكن الفلاحين لم يُخدعوا. خرجت حركة الفلاحين في باباي وأحرقوا الشحنة بالكامل. فهموا أن هذه ليست هدية، بل أداة استعمارية لتدمير السيادة الزراعية.
إندونيسيا:
في 2005، كُشف أن مونسانتو دفعت رشوة لمسؤول إندونيسي لتجاوز القوانين البيئية. فُرضت عليها غرامة، لكنها حصلت على ما تريد: دخول السوق.
ما يجمع هذه الأمثلة هو نظام عالمي قائم على الربح والسيطرة. نظام:
يحوّل الفلاح إلى زبون
يحوّل البذور إلى سلعة
يحوّل التنوع إلى تجانس قاتل
يحوّل السيادة إلى تبعية
ولا يتحقق ذلك إلا من خلال إمبريالية مؤسسية: اتفاقيات التجارة، قوانين الملكية الفكرية، شروط التمويل، وتأثير المانحين على السياسات الوطنية.
لا أمن غذائي بدون سيادة على البذور. ولا سيادة على البذور في ظل نظام رأسمالي يخدم شركات عالمية لا يهمها سوى الأرباح.
ما كتبته اعلاه فى هذا المقال هو عبارة عن جهد بحث فى قوقل ليوم واحد فقط، طبعا بالاضافة لما عرفته من خلال عملى فى بعض هذة البلدان. انا متاكد انكم ستجدون المزيد والمثير للعجب اذا قمتم ببحث متأنى فى الانترنت.