الثقّاف ..(3/1)

الثقّاف ..(3/1)

كتب: محمد أحمد الفيلابي

_إزالة الشوائب التي علقت بنفوس الناس.. تحريك الساكن.. وبث نثيث الأمل_

في المهرجان الثالث بدار النعيم، وهي إحدى المناطق التي كنا نتوقع أن يرفض فيها المشروع، بوصفها من المناطق التي شهدت إنفجار العنف القبلي في يونيو 2019، والذي أدى إلى أحداث مأساوية، وفتح جراحاً ما زالت تنزف تحت الجلد، وقف الشيخ صالح محمد عاليتاي ليقول عن البرنامج ومحتواه، ذاكراً أن..”هذا ما ننتظره من القائمين على أمر توعية الناس، وجمع الصف، وإزالة الشوائب التي علقت بنفوس الناس، فالبلد يسعنا جميعنا، لأن الضغائن والكراهية لا تفعل غير تدمير البلد، والسودان يحتاج إلى مجتمع متماسك بمحبة حتى يمكننا النهوض”.
أما أنا فقد علقت بي من كلمات الشيخ جملة “إزالة الشوائب التي علقت بنفوس الناس”. ما يعني أننا نحن نقوم بتسوية وتثقيف الغصن اللدن المتمثل في الجيل القادم، لينطلق نحو المستقبل كالسهم. فالعرب يقولون ثَقِفَ الرمح، أي قام بتسويته. وثَقِفَ الشيءَ ثَقْفاً وثِقافاً وثُقُوفةً حَذَقَه.. أي صَارَ حَاذِقاً خَفِيفاً فَطِناً فَهِماً فهو ثِقْفٌ. أما الثِّقافُ فهو ما تُسَوَّى به الرماحُ. وبذا يكون (الثقّاف) هو من يقوم بفعل التثقيف.
عدت مسرعاً للتسجيلات الصوتية، ومن بينها الإفادات حول البرنامج التي قدمها عدد من الحضور، من النساء والرجال والأطفال، لأجد أن أكثر المفردات تداولاً هي (تعلّمنا.. عرفنا.. تثقّفنا..)، إلا أنني وقفت عند مفردة (تغيّرنا) وقد نطقت بها إحدى الشابات المشاركات. وهذا ما سأعود إليه لاحقاً، حين الحديث عن التغيير.
بالفعل قصدنا أن يقوم هذا المشروع/المبادرة بدور (الثقّاف).. ولعل نص الرسالة يبين لنا أي هدف ظللنا نعمل عليه..
ما نعيّر زول بلونو.. أو لسانو ومهنتو
ما نقلّل قدرُو كونو بيختلف
أصلو ربنا هو الخلقنا بنختلف
فلنستشف.. الحكمة في إننا نختلف
ولنعترف بالتعدُّد وبالتنوُّع نحتفي.. ما ننكفي
نرفض بعض.. نكره بعض.. نقتل بعض العنصرية دي حاجة سيئة نهملا
والكراهية اللي بينا نبطلا
فينا كامنة محبة هائلة نفعلا
قوم فعلا.. يلاكي قومي نفعلا
إن استملت رسالة سالبة أهملا..
ما تنقلا
وإن استلمت رسالة موجبة
بيها أعمل ووصلا.. رسلا
النص من بين (23) نص تتشاركه المجموعات الست مع ثلاثة نصوص أخرى، هي أغنية السلام (لا لا للحرب لا).. و(غنيوة بيئتي). و(الكوشة ما حبابا). ولكل مجموعة نصوص خاصة بها مع المشتركات الأربعة. وفيها نقول عن العنصرية مثلما نقول عن الكوشة، لندس رسالة أن التلوث البصري (الكوشة) يشبه التلوث الاجتماعي (العنصرية). وأنه مثلما يمكننا بالمشاركة إزالة الكوشة، يمكننا تقليل أثر العنصرية، ومحوها في المستقبل.
ونعوّل على الإدراك المتأني للمعاني.. وأسميه (دِرِب العرفة)، حيث نأمل أن تفعل هذه الرسائل في المجتمع مثلما يفعل (الدِرِب) في الجسد الذي يعاني الجفاف. أي أن يزيل (الجفاف العاطفي) بتؤده، حقناً للرسالة الانسانية. من ذاك أنه حين كنا نردد (غنيوة بيئتي) في إحدي بروفات مجموعة (ديم مايو):

كل ما حولي.. فوقي.. تحتي… بيئتي
أرض وفضاء.. ماء وهواء.. بيئتي
شجراً.. حجراً.. طيراً.. بشراً.. بيئتي
كل أنواع المخلوقاتِ… بيئتي
قلمي.. قيمي.. وعلاقاتي.. بيئتي
كل ما أثّر فيها حياتي.. بيئتي
كل ما تأثر بيها حياتي.. بيئتي
أثراً آني.. أثراً آتي.. بيئتـــــــــــــــــي
وُجد الكون مخلوق موزون
كل نظام في الكون موزون
قبل دخول من يفسدون.. لتصبح بيئتي بلا حول
قتلوا… قطعوا… هلكوا… نزعوا
لا تعبث أبداً بالبيئة … لا لا
لا تفسد أبداً للبيئة… لا لا
وقفت إحدى الأمهات (المثقَّفات) النازحات، لتقول أن القتل تعدى الحيوانات المهددة بالانقراض إلى قتل البشر بكل أنواع الأسلحة. وتعدى القطع الغابات إلى قطع العلاقات بين المواطن ومؤسساته، وطال النزع الناس من بيوتهم، والأمن من النفوس، والطفل من صدر أمه. يومها قلت صادقاً أنني تعلمت من تلك المرأة، كما أتعلم يومياً من الأطفال، ومن أهل الخبرات، مثلما نتعلم من مجريات الأحداث.
في أغنية السلام (لا للحرب) نذكر وصفاً وتوثيقاً… وتخليداً لمواقف الأسر السودانية التي احتضنت الآلاف رغم ضيق الحال. ومع هذه الأسر عمل البرنامج..
من الرصاص يأتي البلاء.. يهدم أساس كل الحياة
عطلة ومساس بالكبرياء.. لا لا للحرب لا
من الحروب ياما نشوف.. فُرقة ديار وقتل ونهب
بس القدر من السماء.. منذ الأزل كان قد كُتب
لا لا للحرب لا
نزحت جموع خافت تموت.. تالا الأهل حيث الوفاء
فُتحت قلوب قبل البيوت.. مُسحت دموع من دون رياء
لا لا للحرب لا
قلت أننا عملنا مع الأطفال والشابات وسط الأحياء السكنية، حيث يختلط النازحون بالسكان المستقرين، ويتم تشارك اللقمة والفرش والضراء، وكذا الشكايات والحكايات والدعوات، ونثيث الأمل الكامن في هؤلاء الأنقياء الفقراء الصابرين، الطامعين في رحمة الله ولطفه. يتلقون الأغنيات والرسائل، يتشربون المعاني لأنها تلمسهم عميقاً، تحركهم الألحان فيرقصون طرباً رغم كل شيء، و(تزغرد) النساء لا شعورياً. نغيب عنهم لأيام بحكم برنامج البروفات، فيلاحقوننا بالسؤال (جايين متين؟).. وحين نأتي نجد الأمكنة قد ضاقت بهم، وصبّارات القهوة والشاي تحوم في أريحية سودانية لن تطمرها الحرب، ولا ضيق ذات اليد. لتصبح البروفات كما خططنا للمشروع هي الأساس، لا المهرجانات..
ونعود….

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *