يا خُطى العمال يا آيارها حباً وكدحا..
كتب: طلال نادر*
يصادف اليوم الأول من أيار/مايو عيد العمال، الذي جاء نتاج المطالبة الجماعية لعمال “شيكاغو” وتظاهراتهم الجماعية في أواخر القرن التاسع عشر، مطالبين بـ8ـ ساعات عمل. واستشهد خلاله مجموعة من العمال وتم إعدام بعضهم قبل أن يعترف القضاء الأمريكي بحقوقهم، وعلى أثر ذلك تبنته الأممية الثانية كفعل تضامني، بإعتبار نضال عمال شيكاغو هو نضال العمال نفسه في كل العالم، واعتبرت الأول من أيار/مايو يومًا يناضل فيه عمال العالم من خلال تنظيماتهم ونقاباتهم من أجل حقوقهم العادلة. وتحتفل دول عدة حول العالم بهذا اليوم بمظاهر وأشكال متعددة تتضمن آليات النضال السلمي من أجل حقوق العمال العادلة والمشروعة، ومظاهر إحتفائية في دول متفرقة.
وفي تاريخ السودان، برزت الحركة العمالية في منتصف أربعينات القرن الماضي، حينما أسس عمال السكك الحديد “هيئة شئون العمال” لتنظيم نضالهم ضد المستعمر، لم يكُن الاعتراف بهيئة شئون العمال سهلًا ولم يكن الطريق لتحقيق ذلك الاعتراف مفروشًا بالورود، واجه العمال عنف السلطة التي اعتقلت ولاحقت العمال بالقوة المفرطة والاعتقال والتحفظ بينما تمسكت الحركة النقابية الوليدة بآليات النضال السلمي لاقتلاع الشرعية من السلطة الاستعمارية.
خاطبت “هيئة شئون العمال” إدارة السكك الحديدية على أساس تمثيلها لأكبر مجموعة من العمال تعمل مع مخدم واحد، وطالبت الحكومة باعتبارها ممثلة للعمال لتحسين شروط وظروف الخدمة، كما طلبت إتاحة الفرصة لتقديم مقترحاتهم وآرائهم في مختلف القضايا المتعلقة بالعمل. رفضت الحكومة الاعتراف بهيئة شئون العمال فاشتد النزاع بين الطرفين وانخرط العمال في إضراب شهير، وتعرضت الخدمات في هيئة السكك الحديدية لهزات عنيفة جراء ذلك1.
إزاء ذلك الضغط اضطرت الحكومة لإدخال ما أسمته “اللجان المصلحية” لكي يفاوض العمال من أجل المناخ الملائم لتقديم مقترحاتهم وآرائهم عبر اجتماعات تلك اللجان. غير أن العمال رفضوا تلك اللجان وأصروا على الاعتراف بهيئة شئون العمال، ونتاج نضال عُمالي طويل، وافقت الحكومة على الاعتراف بهذه الهيئة في تموز/يوليو 1947.
قادت هذه التجربة إلى تشكيل نواة العمل النقابي في السودان وأسلوب إدارته وقوالب تنظيمه، فظهر لأول مرة في تاريخ السودان التنظيم النقابي مستقلاً مصادماً وديمقراطيًا. وخاضت النقابة صراعًا متواصلًا ضد الإدارة الاستعمارية، وصل قمته في الإضراب الشهير الذي استمر لأكثر من شهر، وأرغم الاستعمار على التراجع والقبول بمطالب العمال.
وبالتالي أصبحت الحركة النقابية السودانية واحدة من القوى الاجتماعية التي تسهم في النضال الوطني لتحرير السودان من ربقة الاستعمار وتعمل لقيام نظام حكم ديمقراطي فيه، لكن السودان ابتلي بثلاث نظم ديكتاتورية عسكرية تعاقبت على حكمه منذ فجر الاستقلال فقد وقع الانقلاب العسكري الأول في 17 تشرين الثاني/نوفمبر 1958 وتعاقب بعد ذلك نظامان عسكريان2 في 1969 و1989، وأغلق كل منهما الطريق أمام التحول الديمقراطي للحركة النقابية التي انبثقت من آتون معارك التحرير الوطني وسعى لتجييرها لخدمة مصالحه الذاتية، حتى تمنحه قدرًا من الشرعية التي يفتقدها فخلق تنظيًا نقابيًا مشوهًا تابًعا له بصورة أو أخرى وبدد ذلك الإرث النضالي بالحصار الذي فرضه على القيادات النقابية الفاعلة.
أما في حاضر الدولة السودانية، ورغمًا عن الدور الفعال الذي قادته الحركة النقابية بشكل عام لتحقيق التحول الديمقراطي في السودان، والتي بدأت باسقاط نظام الإنقاذ عبر ثورة جماهيرية خلاقة انطلقت في كانون الأول/ديسمبر 2018، تُعاني الحركة العمالية اليوم الأمرين، نتاج ورثة مُثقلة بالتحديات، أرستها سياسات الأنظمة الشمولية المتعاقبة التي أشرنا إليها، والتي انعكست في تشريعات الدولة التي حاصرت العمال في مواقع العمل المختلفة وسعت لتضييق الخناق عليهم وإستغلالهم، كما عمِلت تلك الأنظمة بشكل ممُنهج على تفكيك التنظيم الديمقراطي وشرذمته وخلق الانقسامات، والحركة العمالية لم تكن بِمعزل عن ذلك.
وبالنظر إلى واقع العمال اليوم في السودان، لم تبارح تشريعات العهد البائد مكانها، ولم تتوافر الإرادة السياسية لدى الحكومة الانتقالية ( قبل انقلاب 25 اكتوبر 2021 )، لتأسيس واقع نقابي ديمقراطي، يتيح للعمال تنظيم أنفسهم باعتراف الدولة دون وصاية أو تسلُط بما يمكن من تعديل قانون العمل والتشريعات المتعلقة به، باستصحاب رأي العمال أنفسهم عبر تنظيماتهم النقابية المُنتخبة.
وجدير بالذكر أن تعديل أي قوانين متعلقة بالعمل، يتطلب بشكل رسمي حسب اتفاقيات منظمة العمل الدولية، التي صادق عليها السودان حديثًا “الاتفاقيات (87) و(98) حرية العمل النقابي، والمفاوضة الجماعية”، يتطلب تمثيل العمال عبر منظماتهم النقابية الشرعية في المفاوضة خلال حوار ثلاثي يشمل “أصحاب العمل” و”الحكومة” و”نقابات العمال”، وهو ما عجزت الحكومة عن تحقيقه حتى الآن، بالتقاعس عن إجازة قانون للنقابات يكفل لها تنظيم ذاتها بصورة مستقلة.
لقد أثبتت تجارب الواقع والدراسات العلمية، أن المفاوضة بشكل جماعي هي الوسيلة الأنجح لتحقيق المطالب، واقتلاعها دون من أو أذى، لأنها تبرز وزن المطالبين الكبير، وتحقق للعمال الحماية ضد احتمالية أي تسلط أو استهداف من المُخدم (صاحب العمل) في حالات المطالبة الفردية، ويعد السبب الأهم في نجاحها، أنها تشهر في وجهه أقوى أسلحة العمال خلال مسيرة تحقيق مطالبهم وهي أشكال النضال السلمي الجماعي المختلفة التي يكفلها العمل النقابي المُنظم لمنسوبية، وأبرزها في تاريخ نضال العمال وأكثرها خطوة “الإضراب عن العمل”.
إذن ما تزال التحديات أمام العمال ماثلة، وباعتبار نضال العمال في تحقيق مصالحهم وتحسين ظروف عملهم هو نضال يومي مستمر، فالتحدي البارز أمام الحركة العمالية السودانية اليوم هو ترتيب صفوفها والتنظيم على قدر عالٍ وتدريب كوادرها لتحقيق المصالح المشتركة، وانتزاع اعتراف الدولة بالتنظيمات النقابية التي تمثل العمال وفق ما ارتضوه من أسس وما يصيغوه من لوائح وقوانين تحكم التنظيم الذي يعبر عنهم ويمثلهم في إطار ديمقراطي.
حري بالحركة النقابية السودانية وضع نهضتها وتنظيم نفسها نصب عينيها، بالعمل على تحقيق مطالبها وتحقيق الشرعية وسط العاملين ديمقراطيًا وتدريب كوادرها وانتزاع اعتراف الدولة، بعيدًا عن تدخل السُلطة أو أي أطراف أخرى، أما الحكومة السودانية (الانتقالية) فتُحسن صُنعًا لو توافرت لديها الإرادة لقيام حركة نقابية مستقلة وديمقراطية كأحد أبرز متطلبات نجاح عملية الانتقال في السودان.
وربما كانت الكُرة اليوم في ملعب الحكومة، التي ستتقدم خطوة للأمام في اتجاه تحقيق متطلبات الانتقال الديمقراطي، إذا ما أجازت قانون للنقابات، يُعطي العاملين الحق في تنظيم أنفسهم وفق إطار قانوني يكفل حرية واسستقلالية العمل النقابي، ويدفع مساع الحركة النقابية السودانية في تنظيم نفسها والمساهمة في تعديل سياسات العمل وتحسين شروط الخدمة والمساممة في التنمية الاقتصادية، أما إصلاح قوانين ولوائح العمل بعيدًا عن التمثيل الديمقراطي لمنظمات العمال النقابية، فهو غرفُ من معين التجارب السوداء للحكومات السودانية، وما أنفك النضال العمالي يناهضه ويقف ضده باستمرار.
وبذكر “عيد العمال”، فالذاكرة تستحضر المقولة الشهيرة للمفكر الألماني “كارل ماركس”: “يا عُمال العالم اتحدوا”، والتي تُلخص الفصلين الرابع والخامس من البيان الشيوعي، أهديها اليوم للحركة العمالية في السودان بمناسبة عيدها، تحيةً وتقديرًا ودعمًا لنضالها المستمر في سبيل تحقيق مصالحها العادلة والمشروعة، ودعوة لتوحدها وتضامنها ضد جبروت رأس المال، الذي لن ينتهي الصراع معه بين ليلة وضحاها، بل عبر التنظيم والنضال المستمر داخل نفس النظام، ما يعكس مدى وعي وحنكة “العامل” المستغَل في مواجهة “المُخدم” المستغِل لتحقيق مصالح استراتيجية ومطالب يومية مشروعة.
مراجع:
1 سعد الدين فوزي “الحركة العمالية في السودان 1946 -1955” ترجمة: محمد علي جادين.
2 محجوب محمد صالح، ورقة بعنوان “نحو تعزيز دور النقابات في الإنتقال الديمقراطي”.
*كاتب وصحفي بموقع “الترا سودان” نُشرت المقالة بتاريخ 01-مايو-2021