حصار الفاشر .. ازمة غذاء ومطابخ جماعية يديرها متطوعون

حصار الفاشر .. ازمة غذاء ومطابخ جماعية يديرها متطوعون

منذ مايو 2024، تعيش مدينة الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، تحت حصار متواصل دخل شهره السابع عشر، ليُسجل كأحد أطول حالات الحصار في النزاعات المعاصرة. هذا الحصار، الذي اتخذ طابع الاستنزاف البطيء، أعاد إلى أذهان سكان المدينة صوراً تاريخية قاتمة لمدن مثل ستالينغراد ولينينغراد، التي سُحقت تحت وطأة الحصار والتجويع حتى حافة الفناء. وعلى مدار أكثر من 500 يوم، تغيرت ملامح الفاشر بشكل جذري، حيث تحولت أحياؤها إلى شبكة من الخنادق التي حفرها المدنيون بأنفسهم، فيما باتت المنازل ملاجئ مؤقتة، وانخرط أبناء المدينة في مجموعات دفاع ذاتي إلى جانب الوحدات العسكرية المتمركزة. المدينة التي كانت يوماً مركزاً حيوياً في دارفور، أصبحت اليوم ساحة اختبار لتكتيكات الحرب الحديثة، من الحصار الكلاسيكي إلى الاستخدام المكثف للطائرات المسيّرة والتقنيات العسكرية المتقدمة.

خنادق يومية

مع تقدم قوات الدعم السريع نحو أطراف الفاشر في أكتوبر 2024، لجأ السكان إلى حفر خنادق بعمق الكتف وسط الشوارع وبين المنازل، لتكون ملاذاً من القصف اليومي. هذه الحفر، التي تغمرها مياه الأمطار في موسم الخريف، أصبحت جزءاً من معمار البقاء. العائلات تنزل إليها قبل الفجر، استعداداً للقصف الصباحي الذي بات طقساً يومياً. أحد السكان وصف الأمر قائلاً: “نستعد له كما نستعد للصلاة”. وفي كثير من الليالي، يفضل الناس النوم تحت الأرض على المجازفة بالبقاء في منازلهم. لكن هذه المخابئ لم تكن كافية لتجنب المآسي. إبراهيم يروي كيف فقد جارين أثناء توقفهما لتحية بعضهما في طريقهما إلى الخنادق، فيما تحكي أمل عن لحظة سقوط جدها بقذيفة مدفعية واضطرارها للاحتماء بجسده لساعات قبل أن تتمكن من دفنه. محمد يصف مأساة شاب ظل ينزف أسبوعين في خندق غمرته المياه حتى مات بساق متعفنة.

طائرات مسيّرة

منذ أواخر 2024، بدأت قوات الدعم السريع باستخدام الطائرات المسيّرة بشكل مكثف، سواء لأغراض التجسس أو الهجوم. أصوات الطنين في السماء أصبحت مصدر رعب دائم للسكان. أحد الناجين قال: “مجرد سماع الطنين يكفي ليجمد الدم في العروق. لا تعرف إن كانت تراقبك أم ستسقط فوقك”. هذا التكتيك الجديد ضاعف من حالة الذعر، وفرض على السكان نمط حياة أكثر عزلة وتوجساً.

حصار اقتصادي

الحصار المفروض على الفاشر لم يكن عسكرياً فقط، بل امتد ليشمل الجانب الاقتصادي. قوات الدعم السريع أقامت سواتر ترابية حول المدينة من الجهات الشمالية والشرقية والجنوبية، مغلقة بذلك معظم طرق الخروج. الطريق الوحيد المتبقي يقود غرباً إلى مدينة طويلة، على بعد 60 كيلومتراً، لكنه طريق محفوف بالحواجز والكمائن وعمليات الابتزاز. ليلى، إحدى النازحات، تصف المفارقة بمرارة: “عربة يجرها حمار من الفاشر الآن أغلى من سيارة جديدة”. الرجال والشبان يواجهون خطر القتل أو التجنيد القسري على الطريق، ما يجعل الهروب شبه مستحيل. أحد المتطوعين في طويلة يروي مشهداً مؤلماً لرجل مسن وصل سيراً من الفاشر، طلب ماءً، شرب، ثم انهار ومات أمامهم. كان ضمن موجة نزوح تجاوزت 400 ألف شخص.

أزمة غذاء

بعد مرور 500 يوم على الحصار، تحولت الأسواق في الفاشر إلى أطلال. المواد الغذائية باتت نادرة وأسعارها خيالية: كيلوغرامان من الدخن بـ100 دولار، وكيلو السكر أو الدقيق بـ80 دولاراً، في حين أن متوسط الراتب الشهري قبل توقف الرواتب لم يكن يتجاوز 70 دولاراً. نحو 260 ألفاً من السكان المتبقين يعتمدون على أربعة مطابخ جماعية يديرها متطوعون، لكنها لا تقدم سوى وجبة واحدة يومياً وغالباً ما تُستهدف بالقصف. السوق الوحيد المتبقي في حي نيفاشا تقلص إلى بضع أكشاك بأسعار لا تطاق. عمر، أحد السكان، يقول: “أحياناً نعيش على وجبة واحدة في اليوم، وأحياناً لا شيء”. حتى المهربون الذين كانوا يوفرون خط إمداد بدائي انسحب معظمهم، واصفين الطريق بأنه “انتحار”. كثير من العائلات تعيش الآن على قشور الفول السوداني، التي كانت تُستخدم سابقاً كعلف للماشية.

انهيار صحي

الوضع في المستشفيات أكثر قتامة. مركز علاجي مرتجل يُعرف بـ”البلوك” يعالج الجرحى بأدوات بدائية: قليل من الملح، أقمشة ممزقة. مستشفى السعودي، آخر منشأة طبية شبه عاملة، يضطر الأطباء فيه إلى اتخاذ قرارات قاسية بشأن من يمكن إنقاذه ومن يُترك لمصيره. أميرة، متطوعة طبية، تقول: “نحدد من سينجو ومن سيموت”. المستشفى توقف عن استقبال بعض الحالات بسبب قربه من الجبهة، فيما خرجت منشآت أخرى من الخدمة بعد تعرضها للقصف. الجرحى يتكدسون دون علاج، ولم تدخل أي مساعدات رسمية منذ بداية الحصار.

ظلام يومي

الليل في الفاشر بات مرادفاً للصمت والخوف. حتى المصابيح الشمسية تُطفأ خشية استهدافها من الطائرات المسيّرة. عبد الله، أحد السكان، يقول: “لا يمكنك حتى إشعال سيجارة”. في هذه الأجواء، انتشر المستنفرون في الشوارع، وتحولت الحياة اليومية إلى نمط عسكري صارم، حيث يُنظر إلى كل رجل وفتى باعتباره مقاتلاً محتملاً. المدينة تعيش تحت ضغط نفسي دائم، وسط غياب أي مؤشرات على انفراج قريب.

اختبار دموي

حصار الفاشر يجسد مأساة السودان المعاصرة: مزيج من تكتيكات الاستنزاف والتجويع التقليدية، والتكنولوجيا العسكرية الحديثة. المدينة تحولت إلى خط مواجهة محوري، وأرض اختبار لأسلحة لم تشهدها دارفور من قبل. ومع استمرار الدعم العسكري واللوجستي الخارجي، خصوصاً من الإمارات وفق شهادات متعددة، تواصل قوات الدعم السريع إحكام قبضتها على المدينة. ورغم ذلك، تبقى الفاشر جبهة صعبة، وربما آخر ساحة يمكن أن تفتح نافذة نحو تسوية سياسية محتملة، إذا ما أُعيد النظر في كلفة استمرار الحرب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *