الثقّاف (3/2)
اللبنة الأولى في بناء السياج الاجتماعي والثقافي ضد العنصرية وخطاب الكراهية والعنف.
قلت في الحلقة الأولى أن البروفات هي أساس المشروع لعدة أسباب، منها أن “السرور الذي يجلبه مسرح الأطفال للأطفال يعد مبرراً كافياً لوجود مسرح للأطفال” كما قال (مارك توين). لذا فإنها بالنسبة لي هي الأساس، فالمهرجان لا يتعدّى الساعتين أو أكثر قليلاً من المشاهدة والاستماع الذي قد يشوشه جهاز الصوت، وضجّة الأطفال، وحركة الضيافة، والدخول والخروج أمام خشبة المسرح، وبين مقاعد الجمهور، كما جاء في العديد من الإفادات اللاحقة. إلا أن البروفات، ووقتها الممنوح لتسكين الرسالة الأساسية ترديداً ومراجعة واسترجاعاً، ومناقشة للمعاني، في حضور من يحضر من الأطفال خارج المجموعة المشاركة، والأمهات المصاحبات لبناتهن، وضيوف البروفات من المبدعين وأهل الشأن البيئي والثقافي وتدخلاتهم ومداخلاتهم، فتلك هي اللبنة الأولى، والخطوة الثابتة على طريق بناء السياج الاجتماعي والثقافي ضد العنصرية وخطاب الكراهية والعنف.
خلت المدارس في الآونة الأخيرة من النشاط المصاحب، ما يجعل أمر إستيعاب هدف المبادرة صعباً في بدايته على الطفلة/الشابة المشاركة واسرتها، إذ ماذا يعني لقاء (شيخ ستيني) يصاحبه عازف كيبورد، وآخرون وأخريات ربما، لساعات في نهارات بورتسودان القائظة؟ فقد كنا نعمل في أشد أيام المدينة حراً وارتفاعاً في درجات الرطوبة، مع تيار كهربائي متقطع. الأمر الذي دفعنا لاستلاف مبلغ مالي من الدكتور عيسى عبد اللطيف رئيس المنظمة لشراء مولّد صغير يشاركنا الركشة في تجوالنا بين المناطق الست، لاجراء البروفات.
كنت أثق أن إدراك مغزى وأبعاد رسالة المشروع الأساسية، والاجابة على التساؤلات والمخاوف سيجيب عنها حضور البروفات المتواصلة، دون أن نخص أحد بالحديث عن المهرجانات والتي ترتبط بالتمويل الذي لم نكن قد حصلنا عليه بعد.
وشيئاً فشيئاً لمسنا الاستعداد الكبير لدى المجتمعات المحلية لمناقشة قضايا العنصرية والعنف وخطاب الكراهية، خاصة أن أثر الصراعات القبلية الدامية التي شهدتها المدينة ما زال باقياً، وقد تجدّد بعد نشوب الحرب الأخيرة في العاصمة وبعض الولايات. وعلى أثر عمل بعض المنصات الاعلامية على نشر الرعب والتهديد باستمرار الحرب، وامكانية تمددها لتصل بورتسودان نفسها.
تمكنا مع الأيام من رصد التغيير الذي حدث بين المجموعات المشاركة. وقد تحدثت عنه إحداهن بوضوح. مثلاً.. “كنا نرفض بعض من ينتمون إلى إثنيتنا. والآن يمكننا التعامل مع أخريات من إثنيات مختلفة”. ووضح جلياً في المهرجانات، أنه بالامكان إختراق المجتمعات المختلفة إثنياً برسالة التعايش السلمي، وضمان قبولها لدى الكثيرين. إذ “ماذا تقول.. حين تجد ابنتك والأطفال في الشارع يرددون ما يذكرك بقيم المحبة والسلام ورفض العنصرية، وأن الاختلاف لا يعني الخلاف والنزاع”، كما عبّر احدهم.
كان لابد لنا أن نواجه بتحديات كبيرة تهدد إستمرار المشروع، وعلى رأسها تحدي أن نعمل في ظل وضع أمني غير مستقر، وفي ظل تصاعد متواتر لخطاب إستمرار الحرب، وتصنيف دعاة وقف الحرب بعدم الوطنية والعمالة. وأن يعمل المشروع بين إثنيات مختلفة ترفض بعضها، ما ينذر بإنفجار الصراعات في حال تلاقي بعضهم في مكان واحد، علماً أن هناك مناطق إثنيات محرم دخولها على الأثنيات الأخرى.
لكننا وضعنا لكلّ تحدٍ أدوات معالجته الخاصة. مثلاً، تجاوزنا أمر الدخول للمجتمعات عبر توظيف علاقات الشريك في المشروع، إذ أن لجمعية بورتسودان لتطوير الأعمال الصغيرة (باسيد) تاريخ طويل في العمل وسط مجتمعات المدينة عبر الجمعيات القاعدية. ذلك بجانب علاقات سابقة لنا ببعض هذه المجموعات النسوية من خلال المشاركة لسنوات خلت في الأنشطة التعليمية التثقيفية الخاصة بهم، ما هيأ لنا القبول بعد أن حصلنا على وعد التمويل عبر(باسيد) نفسها، بوصفنا منظمة حديثة التكوين في الولاية (بيئتي). كما كان من اليسير أن تتهيأ لنا المقار لإجراء البروفات، بمباني هذه الجمعيات، أو المدارس القريبة، وأحيانا بيوت قيادات هذه الجمعيات. كما تيسر لنا أن نقوم بتسجيل مجموعات الشابات، والأطفال، حتى في ظل إغلاق المدارس.
ثم ماذا بعد أن وجدنا السبيل إلى إقناع المجتمعات المحلية برسالة المشروع، وضمنا لرسالتنا أن تصل وتترسخ برغم كل شيء، عبر استخدام منهجنا في العمل، والذي خبرناه لسنوات طويلة، ومع عشرات المجموعات في كافة أنحاء السودان؟
لا شئ سوى أن نبدأ العمل، قبل ان يصل التمويل.
ما كان لنا أن نحقق النجاح لولا فضل الله أولاً. ثم تجانس فريق العمل وتوفر عدد من الميسرات الأخرى، والتي من بينها الإيمان القاطع لدى فريق العمل الصغير بأن ما نقوم به هو حق كفلته إتفاقية حقوق الطفل في المادة (13) التي تتحدث عن (للطفل حق في طلب جميع المعلومات والمعارف، وتلقيها وإذاعتها). وأن للثقافة المحلية، والتشبُّع الفطري بالإبداع دور في إدراك أن للأغنية والمسرحية وظيفة تتعدّى المشاهدة والترفيه، إلى تبسيط المعرفة العلمية، وترسيخ المفاهيم وتسهيل عمليات نشرها.
كان حجم الفريق صغيراً يضم بجانبي كـ(كاتب للنصوص ومدرب)، موسيقياً ماهراً في التعامل مع الأطفال وآلة الكيبورد (معلم موسيقى في احدى المدارس بالمدينة)، وثالثناالمعلم بالمدارس الثانوية الذي قضت الحرب بأن يكون سائقاً لركشة، نستقلها في رواحنا وقدومنا، ويقوم أحياناً بمساعدتنا في ترديد النصوص، واستظهارها. بجانب المنسق المحلي، أو المنسقة التي تمثل الجمعية Focal point)) للإشراف على تجهيز المكان، وضبط الحضور.
أما الأغنيات فقد كانت ذات مفردات بسيطة، حولناها في أكثر من موقع إلى اللهجات المحلية..
بطاركيقبي.. بطاركيقبي… بطاركيقبي
أم مدرا.. أم مدرا.. أم مدرا..
آسيكي.. أسيكي.. آسيكي
قومي حيلك.. قومي حيلك..
كما ساهمت الألحان السلسة الجاذبة للأطفال والشابات في سرعة حفظ الكلمات، وتسكين ما تحمله من رسائل خاطبت قضايا المجتمع المحلي (نظافة البيئة، السلام الاجتماعي، نبذ الكراهية والعنف). وبجانب الشغف الكبير بمثل هذه الأنشطة، مثّل حضور مجموعات من النساء والشابات للبروفات، بجانب عدد من الضيوف من ذوي الاختصاص بمجالات البيئة والدراما والموسيقى ضمانة لاستمرار العمل، ونجاح مخرجاته. وأكاد أجزم أن طيلة فترة البروفات كانت نسبة الحضور قريبة من الـ95%، وحتى الغيابات لبعض المشاركات كانت بسبب حراك الأسر في ظل ظروف الحرب.
ولنا عودة
محمد أحمد الفيلابي
كمبالا 23 مارس 2024