التطبيع عنوان صراع مدنية أو عسكرة السلطة
أبوذر على الامين ياسين
انتبه الكثيرون لتولي المكون العسكري توقيع اتفاقية سلام جوبا، ثم بظهور رئيس مجلس السيادة مع الرئيس الاسرائيلي نتنياهو في عنتيبي موقعا على تفاهمات حول التطبيع مع اسرائيل، أن العسكر باتو قادرين على التعاطي المباشر مع الملفات الداخلية و الدولية. وأن الذي جري بجوبا و عنتيبي هو اعلان عدم حاجة العسكر الى القوة الحزبية و المدنية، وأن الحاضنة المدنية باتت من التاريخ الذي استوعبته التجربة العسكرية الطويلة في الحكم، وأن المدنيين بكل قواهم لا يمتلكون تلك الخبرة ولا هم قريبين منها حتى.
جاءت الاشارة الاولى من المكون العسكري أبان اعتصام القيادة، و انخراط المكون المدني والعسكري في حوارات، حرص المكون العسكري على توضيح عدم حاجته للمكون المدني حتى خلال فترة الانتقال عبر تهديده بتكوين حكومة تكنوقراط و اجراء انتخابات بعد تسعة اشهر، ثم قام بفض الاعتصام ليؤكد قدرته المطلقة على فعل ما يريد منفردا، ليجد نفسه في مواجه شارع أجبره على توقيع اتفاق الشراكة مع المكون المدني قوى الحرية و التغيير وقتها.
حرص المكون العسكري خلال فترة حكم حمدوك على تولي كل الملفات حتى الهامشي منها، في سبيل اعلان عدم حاجته للمكون المدني، و ابراز اكتمال خبراته و نضوجه كمؤسسة، وكامل جاهزيته للحكم منفردا. بل مضى أكثر من ذلك و بثقة عالية في أنه (المكون العسكري) أنما كان يوظف المكون المدني لإضعاف الشارع. لكن المكون العسكري مرة أخرى وعند انقلاب 25 اكتوبر 2021 وجد نفسه في مواجهة الشارع بنفس القوة والعنفوان الذي جربها ليلة مواكب ال 30 يوليو الشهيرة.
ملف التطبيع مع اسرائيل يوضح توجهات العسكر و مشروعهم للانفراد بالحكم هذه المرة مباشرة بلا حاجة للقوى المدنية، اذ تمثل فترة الانقاذ اكتمال خبراته على كافة الاصعدة التي كان يتولاها أو يمتلك خبراتها المدنيين. و أول ركن أكمل الجيش اخضاعه التام و الكامل هو الحركة الاسلامية و حزب المؤتمر الوطني اللذان يمثلان القوة والحاضنة المدنية التي استعانت بالجيش لكنه نجح و أكمل مهارات التحكم فيها وحتى لحظة كتابة هذه السطور. بل تتضح مهارة تحكم المكون العسكري على الحركة الاسلامية و المؤتمر الوطني في أن كل تحركاتها بعد الثورة وعلى أي صعيد أو حجم لا تتم بمبادرة من الحركة الاسلامية ولا المؤتمر الوطني بل بتوجيه مباشر من العسكر. وأن تجربة العسكر مع الحركة الاسلامية و حزبها المؤتمر الوطني مثل قدرات و امكانية اخضاع القوى المدنية على اطلاقها و تتبيعها للجيش.
ثورة ديسمبر بالنسبة للعسكر تمثل نهاية العلاقة و دور المدنيين في تحريك الجيش لاستلام السلطة لصالحهم. و نهاية العسكرة كظاهرة مدنية (اي يقف خلف تحركات الجيش دائما القوى المدنية) و نضوج الحيش حاكماً منفردا له حق الحكم في السودان الذي يمثل المدنيين فيه الشق الاضعف.
المؤتمر الوطني الأن يمثل الانموذج المطلوب لشكل و مستقبل العلاقات مع المكون المدني (خضوع تام وكامل) و بقاء القوى المدنية مساعد وداعم و تابع للجيش. أما ملف التطبيع فالواضح أن انتباهه العسكر لأثر و خطورة القوى الدولية أيضا كانت في طليعة انتباهتهم و اهتمامهم. لكن للمؤتمر الوطني الذي هو الان أكبر مساعد ياي للعسكر في مواجه القوى المدنية، محاولات مشهودة و معلنه للتطبيع مع اسرائيل لفك الحصار والعزلة التي فرضتها امريكا على نظام الانقاذ طيلة فترة حكمه الطويلة. ابتداءا من تفاهمات مصطفى عثمان اسماعيل مع السفير الامريكي بالخرطوم التي سربتها ويكيليكس العام 2008، مرورا بتصريحات والي ولاية القضارف كرم الله عباس، و انتهاءا بتصريحات ابراهيم غندور وزير الخارجية وقتها في عدم ممانعة الخرطوم في دراسة أمر التطبيع في اجتماع ضم قدماء الاسلاميين وقيادات الاستخبارات والامن العام 2016. والأن يستفيد العسكر من كل ذلك بعد نجاح نموذج اخضاع المدني للعسكري.
و هكذا تتحول كل خبرات القوى المدنية لصالح العسكر و دعم احقيتهم المتوهمة بالانفراد بالحكم على قاعدة تراكم الخبرات التي لم تتوفر للقوى المدنية مطلقا. بل أكثر من ذلك تشهد تجربة العسكر مع الحركة الاسلامية وحزبها المؤتمر الوطني، أن القوى المدنية يمكن أن تكون حقيقةً أكبر سند و داعم لعسكرة السلطة و ضد مدينتها كما في أيام المفاصلة الشهيرة، ومن هنا برز واضحا مع ثورة ديسمبر أن للجيش مشروع كامل ورؤية في التعامل مع القوى الحزبية والمدنية غير المجرب والمعهود والمسلم به في تاريخ السياسة السودانية من بعد الاستقلال.
كذلك توضح التفاعلات السياسية في أعقاب توقيع قوى الحرية والتغيير المركزي الاتفاق الإطاري مع المكون العسكري، و حوار القاهرة ، والتطبيع مع اسرائيل، وتصريحات البرهان و كباشي، أن نظرة و عقيدة العسكر و نظرتهم للقوى المدنية و امكانية اخضاعها للعسكر ما زالت تسيطر على تفكير و رؤية و تعامل العسكر مع القوى المدنية. بل حوار القاهرة يمثل قمة النجاح في توظيف المكون المدني لصالح مشروع عسكرة السلطة.
وأن العسكر يمكن أن تكون لهم اليد العليا في توظيف القوى الاقليمية و الدولية لصالح رؤيتهم ومشروعهم، بل إن القوى المدنية حتى على هذا الصعيد تبدوا بقدرات و خبرات أقل و بما لا يقارن مع خبرات العسكر بعد نجاحهم في اخضاع شق مهم من المدنيين لصالح مشروع عسكرة السلطة، و ضد بقية القوى المدنية الاخرى و مشروعها لمدينة السلطة و ديمقراطيتها.
الواضح أن القوى المدنية تحتاج أن تتوحد ما أمكنها ذلك في الظرف الراهن لمواجه العسكر و مشروع عسكرة السلطة. و إبداء انتباهه واعية لأهمية الشارع الذي يقف وحيدا ضد العسكر، و بعيدا شيئا ما عنها. ذلك أن العسكر باتوا يخشون الشارع أكثر ما يخشون القوى المدنية التي تبدي لهم أمكانيات في التلاعب بها حد اخضاعها و توظيفها ضد مشروع ديمقراطية و مدنية السلطة.
و كذلك لينتبه أهل الحركة الاسلامية و المؤتمر الوطني لماذا هم منبوذين و مبعدين، لان ذلك ضرورة تفتضيها المرحلة حتى تستعيد القوى المدنية قواها و ترد كل السلطة للمدنيين و ترسخ لنظام ديمقراطي قوى و دائم، كونهم اسلاميي المؤتمر الوطني ضد أنفسهم كمدنيين في هذه المرحلة، بل اسوأ من ذلك هم ظهير معلن للعسكر و عسكرة السلطة.
إن ثورة ديسمبر في أهم تجلياتها الوعي بتمام مدنية الحكم و عودة العسكر الى الثكنات، رغم سماع هتاف جيش واحد شعب واحد، إلا أن مدلوله كان مختلفا عن سياقات سبعينات القرن الماضي عندما هتف للنميري ضد اليسار، أو تسعيناته عندما هتف للبشير ضد اليمين، بل كان يؤكد أنهم جيش وشعب واحد في سياق أداء كل منهما المهام الموكلة اليه دستورا. لكن بغياب قيادة ملهمة و راشدة للثورة تبددت الفرصة التاريخية للتفكيك الحقيقي و البناء الاصيل، و اختزلت الثورة في محض انقلاب نفذته بقايا نظام البشير في اللجنة الامنية. ورغم تجدد الفرصة عند هبة الشعب بعد جريمة فض الاعتصام فإن الحقيقة فرضت نفسها كما يحدث دائما أن الثورة العظيمة التي تبلورت أفكارها لم تقدر نخبتها على ابداع قيادتها.