قطاع التعدين..الفساد المالي والنظام الإداري وجهان لعملة واحدة..!!

قطاع التعدين..الفساد المالي والنظام الإداري وجهان لعملة واحدة..!!

تحقيق: حوازم مقدم

صناعة الذهب في السودان تقع في براثن كماشة يمثل الفساد المالي إحدى فكيها، ويمثل النظام الإداري والسياسات الموضوعة من قبل الأجهزة الحكومية  الفك الآخر ، وبالرغم من أن النشاط التعديني في السودان بدأ منذ سبعينات القرن الماضي بحقل أرياب عبر الشركة الفرنسية إلا أن التاريخ الفعلي لإهتمام الحكومة بهذا القطاع بدأ في العام 2010 وذلك بإنشاء وزارة منفصلة للتعدين.

الحكومة قد وجدت نفسها مضطرة للدخول في هذا القطاع نسبة للأزمة الاقتصادية التي كان سببها انفصال الجنوب وذهاب البترول من ناحية، ومن ناحية أخرى كان التعدين الاهلي (العشوائي) قد سبقها قبل ذلك بأكثر من خمسة أعوام وامتدت اثاره في معظم ولايات السودان بإنتاج وفير (لا توجد إحصائية دقيقة) وكان هذا الإنتاج ملاحظًا حتى أن شركات أجنبية كثيرة أبدت رغبتها في الاستثمار في هذا القطاع وفجأة انتبهت الحكومة إلى هذا الكنز  فقررت السيطرة عليه للحد من آثاره السالبة كهدف ثانوي وللاستحواز على جُعل منه لدعم الاقتصاد كهدف رئيس . فكان قرار إنشاء وزارة مختصة تعني بالتعدين في العام 2010.

العقلية القاصرة:

يقول الخبير بالتعدين ومسؤول التنمية البشرية السابق للشركة مدثر رضا لـ(سودان تايمز): “تعتبر العقلية التي أنتجت الشركة السودانية للموارد المعدنية هي ذات العقلية القاصرة التي ظلت تدير الاقتصاد السوداني على مدى عقود من الزمان منذ الاستقلال حتى الآن ” والتي تنظر إلى موارد السودان كغنيمة تستحوذ عليها وتهدرها في الاستهلاك والإنفاق الحكومي (الجزء الذي يكون قد نجا من الفساد ووجد طريقه للقنوات الحكومية)، وهكذا يظل السودان في دائرة الفقر على الرغم من الفرص التي سنحت له للخروج من هذه الدائرة كما حدث في نموذج البترول ويحدث الآن في قطاع التعدين.

الغرض الجبائي:

محدثي رضا يواصل حديثه ويقول لـ(سودان تايمز):” من خلال النظر إلى مجلس إدارة الشركة السودانية يتضح الغرض الجبائي في إنشاؤها والذي يعتبر من جملة أربعة أعضاء.. ثلاثة منهم جهات مالية تحصيلية باستثناء وزارة المعادن التي تنازلت عن كل أدوارها وصلاحياتها الحكومية للشركة.. وان بقت كجسم مستأثر بجزء مقدر من حصيلة هذه الجباية في الإنفاق والاستهلاك دون أي دور يذكر في تطوير هذه الصناعة الاستراتيجية الهامة”،  وأضاف يتضح ذلك في تصريحات قادة الشركة وبياناتها التي تتحدث فقط وتتباهي بحجم الإنتاج والتحصيل مهملة أي جانب آخر يساهم بشكل فعال في تطوير القطاع لأنه ببساطة ليس هنالك ما يقال.

وأردف على الرغم من أن المدافعين عن الشركة وهم المستفيدين من وجودها يذكرون أن للشركة أدوار مهمة في تنظيم وتطوير هذا القطاع إلا أن نظرة عابرة على ما تقوم به يكفي لنفي هذه الفرية، فالقطاع يفتقر لأبسط النظم والسياسات الرشيدة التي تؤدي إلى التطور كما في الدول التي تناظر السودان في توفر هذا المورد وكل الإجتهاد الذي تقوم به الشركة في تجويد التحصيل والجباية لأن هذا هو الغرض أساساً من إنشاءها.

وقال مسؤول الموارد البشرية السابق للشركة المعدنية: “من الطريف أن قادة الشركة والوزارة ومن خلفهم بقية أعضاء مجلس إدارة الشركة يحبون التباهي بحجم الإنتاج الذي هو ليس أحد مهام الشركة فالشركة التي تتفاخر بزيادة الإنتاج لا تنتج اي جرام سواء كان من الذهب أو اي معدن آخر ويقتصر دورها فقط على مراقبة ما تنتجه الشركات المملوكة لأفراد وطنيين أو لشركات أجنبية أو ذلك الذي يتم إنتاجه عبر التعدين الاهلي  بغرض تحصيل أكبر نصيب من هذا الإنتاج ليتم إنفاقه واستهلاكه بصورة استنزافيه مهلكة”.

وأضاف ليس ذلك فحسب بل الشركة وبمرور الوقت أصبحت أكبر مستهلك لهذه العوائد حيث أنها وبحسب آخر موازنة (الشركة لا تتم مراجعتها وآخر تقرير مراجعة صدر من ديوان المراجعة القومي كان للعام 2018، وكشف الشركة تصرف على العاملين ما يصل إلى أكثر من 50% من عوائد التحصيل مما جعل الموظفين فيها أصحاب أعلى الأجور في الدولة وأصبحت محط جذب ومطمع من الجهات السياسية والكيانات القبلية وفي غفلة الرقيب تضخم عدد العاملين فيها من 250 في العام 2018 الي ما يفوق  ال 1200 موظف حالياً.

وأعاب رضا على بنك السودان بأن دوره ينبغي أن يكون في استثمار عوائد الإنتاج في زيادة احتياطات الذهب وتقوية العملة ولكنه أصبح جهة جبائية يتحصل عوائد الصادرات التي تنفق في بنود الانفاق الحكومي إضافة إلى أن البنك أصبح اكبر مشتري للذهب ومساهم بصورة فعالة في المضاربات السوقية عن طريق طباعة العملة لتغطية تكاليف الشراء وهذا يؤدي إلى زيادة الكتلة النقدية وانخفاض قيمة الجنيه وزيادة التضخم.

قانونية المخالفات:

ورأي رضا أن معظم المخالفات التي تحدث في الشركة والوزارة محصنة بالقوانين.. وتساءل أين تذهب عوائد الذهب الذي ينتجه السودان سنوياً؟ وأضاف تزداد أهمية ومنطقية السؤال إذا عرفنا أن السودان يحتل المركز رقم 15 عالمياً والثالث أفريقيا في إنتاج الذهب وفق تصنيفات دولية وإقليمية وتقدر احتياطياته غير المستغلة بحوالي 1550 طن بواقع إنتاج وفقاً لآخر احصائية بلغت 41.8 طن للعام 2022 بعوائد مالية تقدر بـ 2.5 مليون دولار بينما بلغت حصيلة العائد من صادرات الذهب للنصف الأول من العام الحالي 1.3 مليون دولار بينما كانت ذروة الإنتاج في العام 2018 بما جملته 78 طن أي ما يعادل ضعف الإنتاج تقريبا للعام 2022 وفقاً الإحصاءات الحكومية.

وثائق تثبت الفساد الإداري والمالي:

وفي اطار التقصي تحصلت (سودان تايمز) على وثائق يعود تأريخها إلى 11 سبتمبر من العام 2023م، حيث حصلت شركة (دزاين لاين) على فرصتين لتصميم أعمال الديكور لجناح الشركة بمعرض الخرطوم الدولي لعامين على التوالي دون أن تقوم الشركة بعمل عطاء للتتنافس عليه الشركات، وبلغت قيمة (ديكور الجناح) 24,250,000.00 جنيهاً سودانياً، وبحسب العقد قامت بتنفيذ PLATT FORM من الخشب ام دي اف ملون بسماكة 10 سم، وتنفيذ وحدات عرض FREE STAND وخلفية من الخشب مع عمل SPACE للبانر المضيء لمساحة 96 متر وأشياء من هذا القبيل. والملاحظ أن الفاتورة غير مفصلة حسب كل وحدة وتكلفتها كما جاءت في المستند.

وفيما شكت الشركة من عدم ايفاء الشركة المعدنية بالإلتزام بدفع استحقاقاتها في الوقت المحدد سارع مسؤول الاعلام والعلاقات العامة بشكرها وعنون خطابه للمدير العام بأنها يجب أن تمنح وسام الانجاز ونص الخطاب أدناه:

 

السيد/ المدير العام

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الموضوع/ شهادة إنجاز

نشكر لكم حسن تعاونكم الدائم مع كافة القضايا الداعمة والمساندة للنهوض بالإعلام، مشيراً إلى الموضوع أعلاه نفيدكم بأن شركة دزاين لاين قد قامت بتنفيذ جناح الشركة في الدورة رقم 40 لمعرض الخرطوم الدولي في يناير 2023 م، وقد نفذت وأنجزت كل المطلوبات وفق المواصفات المتفق عليها، وهذه شهادة إنجاز منا بذلك، فنرجو كريم تفضلكم بالتصديق لها لصرف مستحقاتها التي كانت قد اكتملت إجراءاتها المالية مثل بقية الشركات التي أنجزت مطلوبات جناح للشركة في معرض الخرطوم الدولي، ولكن ظروف الحرب حالت دون صرف مستحقاتها، الأمر الذي نخشى أن يتسبب في حدوث أضرار لهذه الشركات بفقدان القيمة المالية في ظل الارتفاع الجنوني للدولار، نثق في تفهمكم للأمر.

وتقبلوا فائق التقدير والاحترام

إسماعيل جبريل تيسو

مدير إدارة الإعلام والعلاقات العامة.

التعدين العشوائي:

ويرى خبراء أنه بالرغم من أن إنتاج التعدين التقليدي من الذهب يبلغ حوالى 70 الى 80% من جملة الانتاج .. إلا أن جملة الواردات المباشرة من التعدين التقليدي (العشوائي) في أحسن احواله تبلغ حوالى 10% من جملة عائدات التعدين حسب التقارير الرسمية للدولة .. ويقول مدير شركة الموارد المعدنية الأسبق المهندس مجاهد بلال  تبلغ مساهمة ولاية نهر النيل وحدها من تلك العائدات حوالى 66% .. فى حين  تبلغ عائدات نهر النيل و الشمالية و البحر الأحمر مجتمعة حوالى 88% من إيرادات التعدين التقليدى المذكورة لكل ولايات السودان.

ويضيف بلال 20% من الانتاج الاجمالي و هي إنتاج لشركات يعود على الدولة.. وتمثل 90% من إجمالي عائدات التعدين فى السودان و التي تقارب نسبة 50% من أرباح الشركات تقريباً.

ويضيف 80% من الانتاج الاجمالي المنتج عبر التعدين العشوائي لا يتم تحصيل إلا 10% منه.. علما بان تكلفة إنتاج الشركات تكاد تكون ضعف تكلفة الانتاج العشوائي .. و تواجه شروطاً و ضوابطاً قاسية يكون التعدين العشوائي في حل منها غالباً.. و رغم ذلك تواجه الدولة عاصفة من الانتقادات والتمنع عند محاولات ضبط الـ 10% المفروضة على التعدين التقليدي.

ويستدرك: عائدات التعدين التقليدي لا تذهب في إغناء المعدنين التقليديين وفق ما هو متصور.. بل جذب ذلك القطاع العشوائي رؤوس أموال محلية و أجنبية ضخمة تمارس التعدين بعيداً عن أعين الرقابة القانونية ويتحرك معظم ذلك الانتاج بيعاً و شراء في غالبه خارج الدورة الاقتصادية للبلاد.. بصورة قانونية نعم.. لكنها عشوائية على كل حال.

وبحسب بلال متوسط صادر الذهب للأعوام العشرة الماضية يبلغ حوالي 30 طناً من الذهب سنوياً وفق البيانات الرسمية المنشورة.. ومتوسط إنتاج شركات الامتياز خلال العام حوالي 9  أطنان من الذهب.. ومسموح لهذه الشركات بتصدير 70% من إنتاجها بدون حصيلة صادر لدواعي عملية منطقية ومقبولة.. أي.. حوالى 6.5 طن… كذلك.. شركات معالجة المخلفات مسموح لها بتصدير حوالي 15% من انتاجها لذات الدواعي.. فاذا علمنا أن متوسط انتاجها يبلغ تقريباً 9 أطنان فى العام.. فتلك 1.5 طنا إضافية.. فيكتمل المجموع 8 اطنان يتم تصديرها لصالح الشركات.. و المتبقي 22 طناً تقريباً.

هذه الاطنان المتبقية تنطبق عليها المواصفات الآتية:

أولاً .. 4  اطنان تقريباً أو اقل  تعادل نصيب الحكومة من انتاج الشركات المستلم عيناً .. تصدر الدولة جزءا منه و تبيع الجزء الآخر محلياً .. المتبقي متقاسم بين ما تشتريه الحكومة عبر بنك السودان بحر مالها من (سوق الله أكبر) الذي يسيطر عليه التعدين التقليدي.. أو هو صادر شركات تجارية تعمل في صادر الذهب والذي أيضاً هي تشتريه بحر مالها من سوق التعدين التقليدي.. فالقاسم المشترك فيه أنه غير مملوك للدولة و ليس لها فيه من جرام واحد كربح، وبالرغم من أن حصيلة الصادر المقدرة بحوالي واحد مليار دولار يسيطر بنك السودان المركزى بدرجة كبيرة على حركتها داخل الدورة الاقتصادية.. الا ان الدولة ورغم مرور هذا الذهب على كل القنوات الرسمية فانها لا تستطيع ان تستقطع منه حقوق الدولة غير المدفوعة كلياً تقريباً مقارنة بذهب الشركات والذي تتحصل منه الدولة ما يقرب من 50% من القيمة الاجمالية له وفق النسب المختلفة بالقانون.. وذلك الأمر فيه تعقيدات كثيرة خاصة بتنظيم قطاع التعدين العشوائي.. لكن خلاصتها ان ما يتم تصديره من ذهب وفق الوصف المذكور للمتبقي يكون فيه هدر لحقوق الدولة بالنصف تقريباً.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *