محجوب محمد صالح…وداعا صاحب القلم الذي لم يجف ولم يرتجف

محجوب محمد صالح…وداعا صاحب القلم الذي لم يجف ولم يرتجف

الخرطوم: سودان تايمز

إنطفأت اليوم شعلة أضاءت سماء الصحافة السودانية لمدة تجاوزت السبعين عاماً، عن عمر ناهز التسعين بقليل، إختار الله اليوم إلى جواره رئيس مجلس إدارة ورئيس تحرير صحيفة الأيام الأستاذ محجوب محمَّد صالح، الذي حمل قلماً لم يجف ولم يرتجف نافح به الإستعمار والدكتاتوريات العسكرية التي تعاقبت في حكم البلاد.

ولد صالح 21/4/1928، في منطقة بحري، وقبل في كلية الخرطوم الجامعة في 1947، وفصل منها في مظاهرات 1949، حينها كان سكرتيراً لاتحاد طلاب الكلية. وحاول العمل بالتعلم مدرساً، لكن المستعمر لم يروق له أن يصبح صالحاً ضمن طاقم التعليم، ثم إتجه إلى الصحافة في إكتوبر 1949. بدأ العمل في صحيفة (سودان ستار) الأنجليزية والسودان الجديد العربية، وأسس محجوب مع رفيقيه بشير محمد سعيد ومحجوب عثمان صحيفة الأيام في  الثالث من إكتوبر 1953، التي توقفت في نوفمبر 2017.

نال محجوب محمد صالح، الذي يطلق عليه البعض لقب عميد الصحفيين السودانيين، العديد من الجوائز العالمية منها جائزة القلم الذهبي من منبر رؤساء التحرير العالمي والإتحاد العالمي للصحف (سيول 2005) لنضاله من أجل حريَّة الصحافة طوال نصف قرن، ومنح جائزة مؤسَّسة فريدرش إيبرت لحقوق الإنسان ببرلين مناصفة مع أبل ألير، وجائزة المنظمة العربيَّة لحريَّة الصَّحافة (درع الدِّفاع عن حريَّة الرَّأى)، ومنحته جامعة الأحفاد الدكتوراة الفخرية في عام 2004، كما منحته جامعة الأزهري الدكتوراة الفخرية في عام 2007. وكان من المفترض أن تمنحه جامعة الخرطوم الدكتوراه الفخرية في العام 2012، لكن عضو لجنة الدكتوراه الفخرية البروفيسور عبد الملك عبد الرحمن إعترض على منحه، رغم إصرار قسم الإعلام لإنجازاته العلمية المتمثلة في كتابة (الصحافة السودانية في نصف قرن)، والأوراق العلمية عن مستقبل الصحافة. وفي عام 2017 أسست مجموعة دال جائزة بإسمه إستمرت حتى إنفجار النزاع في 15 أبريل 2023، بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع.

فصله من الكلية

وتلقى محجوب الذي ولد في 21/4/1928م تعليمه الأولي والأوسط بالخرطوم بحري، ثم المرحلة الثانوية بكلية غردون التذكارية في الفترة من 1947 – 1946، التي إنتقل منها إلى كلية الأداب – كلية الخرطوم الجامعية في1947، وانتخب سكرتيراً لإتحاد طلاب الكلية وفصل منها  إبان إضراب الطلبة في 1949، وكان يشغل نائب سكرتير اتحاد طلبة الكلية في عام 1948، وفي العام 1949 أصبحت السكرتير العام، وقال (حينها قررنا إقامة مؤتمر يجمع كل طلاب السودان بكل المراحل الدراسية وحتى الجامعة ولأجل هذا دخلنا في مواجهات وصدام مع الحكومة البريطانية التي لم توافق على مثل هذا الأمر، لأنها كانت تعتقد بأنه لا يمكن أن يكون هناك اتحاد يشمل هذه المراحل، لذا قمنا بإضراب عام وحقق نجاحا كبيرا واستمر لمدة ثلاثة شهور، تم فصلنا أنا ورئيس الاتحاد دكتور مصطفى ونائب رئيس الاتحاد دكتور الطاهر عبدالباسط).

يسبب جوطة

وبعد فصله من كلية غردون حاول الإلتحاق بسلك التعليم، لكنه فشل في ذلك، وبدأ مسيرته المهنية في عالم الصحافة، وقال (إن مصلحة المعارف والسكرتير الإداري رفضوا تعييني لأنهم يعتقدون أنني سوف أسبب لهم جوطة، لذلك رأيت أن اعمل صحفياً)، وبدأت بصحيفة (سودان ستار) الأنجليزية والسودان الجديد العربية. وتولى رئاسة تحرير مجلة الحياة التي صدرت عن دار الأيام (1957) كما ترأس تحرير جريدة (مورنيج نيوز) الإنجليزية الصادرة عن دار الأيام أيضاً وتناوب على رئاسة تحرير الأيام مع زميلين.

تلقى دورات تدريبية في الصحافة في لندن (1952) والقاهرة (1954) وبيروت (1954) وفي نيويورك (1959/1960) عبر زمالة داج همرشولد التي أنشاتها الأمم المتحدة

تولى سكرتارية إتحاد الصحافة السودانية (1951-1955)، إبان تولي أبو الصحافة أحمد يوسف هاشم لرئاسة إتحاد الصحفيين، وظل عضواً بالمكتب التنفيذي للإتحاد حتى تم حله من قبل قادة إنقلاب الجنرال عبود في 17 نوفمبر 1959، وكان رئيس إتحاد الصحفيين بشير محمد سعيد. وكان محجوب عضو لجنة الحريات التي تكونت للدفاع عن الحريات والحقوق مطلع خمسينات القرن العشرين.

أخوان فاطمة

ذكر أستاذ محجوب أن القيادي الإتحادي الحاج مضوي، أطلق عليه والنائب البرلماني أحمد سليمان، أخوان فاطمة، لأنهما ظلا النائبين اليساريين بالبرلمان مع النائبة فاطمة أحمد ابراهيم، عقب حل الحزب الشيوعي السوداني وطرد نوابه الثمانية من البرلمان في نوفمبر 1965، بعد حادثة معهد المعلمين التي أتهم فيها شوقي تعريفة بسب الرسول الكريم. ترشحت فاطمة كقيادية بالإتحاد النسائي، وترشح محجوب نائباً عن دوائر الخريجين وممثل الحزب الديموقراطي الإشتراكي، وترشح أحمد سليمان أخ محمد سليمان نيابة عن نقابة المعلمين. وحكى استاذ محجوب أن الحاج مضوي كان يناديه بهذا الأسم حتى فارق الحياة.

وأجازت الجمعية التأسيسية مشروع قانون طرد نواب الحزب الشيوعي بأغلبية 151 عضوا، ومعارضة 12 عضواً وإمنتاع 9 أعضاء، وفي اليوم التالي، قال أعضاء معارضون إن مشروع القانون يتعارض مع المادة الخامسة من دستور السودان التي تمنع المساس بالحريات العامة.

بعض هؤلاء المعارضين من الحزب الوطني الاتحادي، حزب الرئيس الازهري .

وفي اليوم الثالث، تقدمت الحكومة بمشروع قانون لتعديل المادة الخامسة من الدستور،
وبعد يومين، أجيز مشروع القانون هذا بأغلبية 145 عضوا، ومعارضة 25 عضواً، وامتناع عضوين. وعقب حادثة طرد الحزب الشيوعي، كون عبد الخالق محجوب جبهة الدستور العلماني بالإشتراك مع محجوب محمد صالح وآخرين.

التأميم ولجنة التطهير

وفي حقبة نظام مايو الأولى، ترأس الأستاذ محجوب محمد صالح لجنة تطهير المؤسسات الصحفية، إبان تولي محجوب عثمان منصب وزير الإرشاد، وحققت مع مدير التلفزيون حينها علي شمو وآخرين، وسجل شمو إعتراضه على التحقيق معه، كما وصف أحد أعضائها بأنه سكير وليس كفء لمحاسبته، وكتب شمو مقالاً في نقد اللجنة نشر في العام 1969، واعتبرها أنها محاولة لفصله من منصبه، لكنها لم تجد ذريعة لفعل ذلك، وقال صالح (رأست اللجنة لمدة شهرين ثم استقلت منها وتراسها بعدي محمد سعيد القدال).

الكثيرون يربطون محجوب مع محمد صالح بتأميم الصحف في أغسطس من عام 1970، لكنه لم يكن عضواً باللجنة التي وضعت ترتيبات التأميم، التي كان ضمن عضويتها الأستاذ عبد الله عبيد وآخرين، وقال صالح (لقد صدر قرار من مجلس الثورة عبر لجنة سرية رفعت تقريرها عبر أناس معروفين، انا استدعيت حتى أتولى رئاسة المؤسسة الوطنية للصحافة، وقبلت حتى أعيد للناس حقوقهم، وقاتلت من أجل أن يعطى الصحفيين معاش). وذكر أن بعض الصحفيين والعمال يستلمون معاشات إلى تاريخ اللحظة . وذكر أنه ظل في المنصب لمدة 8 أشهر، وإستقال ببيان عقب إصدار الرئيس نميري بيان عن عمل مؤسسة الصحافة.

وصالح عضو مؤسس في إتحاد الصحفيين العرب وإتحاد الصحفين الأفارقة، شارك في العديد من المؤتمرات العالمية حول الإعلام وحرية التعبير وشارك في دورات إقليمية وعالمية لتدريب شباب الصحفيين.

علاقته بدار الوثائق

للأستاذ محجوب علاقة بدار الوثائق، لا يعرفها الكثيرون، فقد حكى سيد مصطفى، المشهور بـ(عم سيد)، إن محجوب محمد صالح قد منح كل أرشيفه من مجلة الفجر التي أسسها عرفات محمد عبد الله، لدار الوثائق، وقد ساهم في تصنيف الصحف والمجلات التي صدرت قبل تأسيس دار الوثائق، وقد منحه مدير دار الوثائق حينها بروفيسور محمد ابراهيم أبو سليم مكتباً بدار الوثائق. وذكر صالح أنه أطلق مبادرة مع أبو سليم لإعادة طباعة مجلة الفجر، التي نجحوا في طباعة عدد محدود منها.

صحفي شيوعي

والبعض يطلق على محجوب محمد صالح، الصحفي الشيوعي، لكنه لم يكن عضواً بالحزب الشيوعي، بالرغم من انه أحد مؤسسي الحركة السودانية للتحرر الوطني (حستو) بكلية الخرطوم الجامعية، وإختلف مع قياداتها وخرج منها بعد فترة وجيزة. بالرغم من أنه ظل فاعلاً في الجبهة المعادية للإستعمار التي يقودها الحزب الشيوعي، وإحتفظ صالح بعلاقات وطيدة مع قيادات الحزب الشيوعي، خاصة الراحل محمد ابراهيم نقد، الذي زار الأول في منزله عدة مرات في فترات إختفائه وقبل خروجه للعلن في العام 2005. والبعض كان يعتبره مستشار المعارضة بالخارج التي كان يقودها التجمع الوطني الديمقراطي حينها.

ويعتبر الكثيرون محجوب محمد صالح موسوعة في تاريخ السودان، وقد كان من القليلين الذين يحرص المؤرخ د.كتور محمد سعيد القدال على مشاورتهم في مسودات الكتب والرجوع إليه في المعلومات المختلف حولها، خاصة الفترة التي سبقت الإستقلال.

مهنية صارمة

عرف رئيس تحرير صحيفة الأيام بالمهنية والحرفية العالية في كتابة الأخبار، حتى في حالات الرقابة الصعبة، ولا أحد يعرف خط أحمر وضعه أستاذ محجوب للعاملين معه، سوى أخبار الجامعة الأهلية، التي كان عضواً في مجلس  أمنائها الذي حل بسبب إتهامه بتجاوزات مالية.

وعندما أوقف جهاز الأمن في عام 2004 صحيفة الأيام لمدة تجاوزت الأربعة أشهر، أرسل له جهاز الأمن بعض الصحفيين لمساومته بإيقاف بعض الكتاب أمثال تاج السر مكي رحمه الله ودكتور مرتضى الغالي، رفض ذلك العرض، فجاءه الرد من نائب الرئيس في ذلك الوقت علي عثمان محمد طه عبر أحد قدامى الصحفيين ليقول له (إذا واصلت العمل بطريقتك دي لو جو المارنز ما حتشتغل صحافة تاني).

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *